من المختارات لكم (40): حاتم الشريف وجرأته على المقام النبوي الشريف
حاتم الشريف وجرأته على المقام النبوي
(كلمةٌ يجب أن يستتاب منها)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فليُعلم أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم رفيع منيع، وأن الأصل فيمن أطلق عبارةً فيها: مسبةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أو انتقاصٌ له أو ردٌ لدينه وما ظاهره الكفر أنه كافرٌ بالله تعالى يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ثم ما يأتي بعد ذلك من صوارف تبحث تبعاً.
فالأصل في لفظ الكفر أنه لا يصدر إلا عن كافر، والمعاذير تبحث تبعاً لرد الكفر عنه فيما يحتمل معنى مقبولاً سائغاً عند العلماء.
ومن جنس ذلك: كلّ لفظٍ فيه تنقّص لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، أو غمزٍ فيه، أو وصفه بما هو من صفات النقص البشري، وعلى ذلك عقد القاضي عياض في كتابه "الشفا" (2 / 473 - 474) فصلاً كاملاً ومما قال فيه رحمه الله: «اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه، أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه والعيب له فهو ساب له.
والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه. ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحا كان أو تلويحا.
وكذلك من لعنه أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام، وهجر ومنكر من القول وزور. أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا».
ولما بلغ الإمام ابن أبي ذئب أن الإمام مالك يقول في حديث: «البيعان ليس بالخيار!» : الْعَمَلُ عندي على غيرهِ؛ لأن أَهل بَلَدِنَا رَأَيْتُهُمْ يقولونَ: فَرَّقَهُ الْكَلَامُ، فغضب ابن أبي ذئب وقال: «يستتاب مالك فإن تاب وإلا قتل!» كما في "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/686) و "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1 / 342).
مع أن الإمام مالك لم يرد قول النبي صلى الله عليه وسلم، وله معاذيره المعلومة عند العلماء.
وقال أبو محمد ابن حزم في "الفِصَل في الملل والأهواء والنحل" (3 / 118) : «فَلَو أَن إنْسَانا قَالَ أَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَافِر! وكل من تبعه كَافِر! وَسكت وَهُوَ يُرِيد كافرون بالطاغوت كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} وَلما اخْتلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن قَائِل هَذَا مَحْكُوم لَهُ بالْكفْر».
فجملة القول: أنه لا يجوز أن يتكلم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بكلام ظاهره الانتقاص ولو حسن قصد قائله، أو فاته حسن التعبير والبيان.
إذا عُلم ذلك فإنه لا يحفى على المعتنين بالعلم ومباحثه حال المدعو: حاتم الشريف! وما يمر به من تقلبات في الظاهر! وما في كتاباته من انحدارٍ متتابع يوماً بعد يومٍ بما يكشف ما وراء الأكمة! وأنه يبطن ما لا يظهر من فاسد التوجه! ومن آخر ما بلغني من مقالاته المنشورة في صفحته على (الفيسبوك) (http://www.facebook.com/Al3uny?ref=ts) قوله: (في الصحيحين من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : ( لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ [ رأس المنافقين] ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ، يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ ، فَأَعْطَاهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ عُمَرُ ، فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ الله، تُصَلِّي عَلَيْهِ ، وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟! فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ ، فَقَالَ : { أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهم إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } ، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ ! قَالَ عمر : إِنَّهُ مُنَافِقٌ ! قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ الله : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَٰسِقُون} القصة مليئة بالفوائد والعبر، لكن استوقفني خطأ النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية {أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهم إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُم} مع ظهور معناها .
حتى إن عمر (رضي الله عنه) فهمها كما أراد الله تعالى.
لقد فهمها النبي صلى الله عليه وسلم على أن العدد فيها مقصود ، وأن الزيادة على سبعين استغفارا قد تنفع . في حين أن المعنى في الآية ظاهر ، وأن العدد جاء للتكثير والتعجيز ، وليس مقصودا ، ولذلك اعترض عمر رضي الله عنه .
نعم .. أقول : أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم في تحميلها هذا المعنى! لأن النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد ، وقد يخطئ ؛ لكنه لا يُـقَـرّ على الخطأ . وهذا ما رجحه جمع من الأصوليين وغيرهم من أهل العلم .
لكن رب خطأ له شرف الفضيلة ! ورب خطأ كان أفضل من صواب ، مادام قد استدركه صاحبه بمعرفة الصواب! بمعنى : أنه رب خطأ بعد التصويب كان خيرا من درك الصواب بلا خطأ !
ذلك أن هذا الخطأ قد بين عظمة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين ، بل مع رأسهم ، رغم كل مواقف تخذيله وإساءته التي ملأ بها سيرة نفاقه !!
فقد كان حجاب الرحمة مانعا من رؤية دلالة النص الظاهرة ، واختلطت في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم دلائل النص على عدم قبول الاستغفار ودلائل رحمة الله التي وسعت كل شيء ، فغلبت الرحمة !
ولم يكن يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظهر لعمر رضي الله عنه من دلالة الأسلوب والسياق ، ولكنه تمنى أن يكون المعنى المرجوح راجحا، وخالط ذلك انطراحٌ على باب الرجاء الذي لا ينغلق ، وخضوع تحت شمول الرحمة التي وسعت كل شيء .
إنه موقف بشري من جهة الوقوع في الخطأ ، وموقف نبوي من جهة حب الخير لكل أحد، حتى لألد الخصوم، وعفو لا يعرفه البشر عن صاحب إساءات تملأ ذكراها الحياة بالتنغيص والألم وفي هذه القصة فوائد كثيرة : عقدية ، وأصولية ، ودعوية ، وتربوية !لعلي أقف من بعضها في منشورات أخرى).
وهذا الكلام بالغ الخطورة وما فيه من الجرأة على المقام النبوي، وسوء الأدب معه، وما هو عليه من قاعدة هاوية متهافتة من فهم كلام العلماء ومتى يذكرون الخطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يعبرون عنه به!
فكيف يصرّح هذا المأفون بقوله: (استوقفني خطأ النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية) ثم يكرر قوله: (نعم .. أقول : أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم في تحميلها هذا المعنى)؟
أجنون هذا أم مجون؟
أم هي آفة الغطرسة والجرأة على المقام النبوي بعد الاستخفاف بعقول العلماء بعبارته الشيطانية (ليس عندنا أحد فوق السقف!) التي يقولها لطلابه في الجامعة!
هل يجرؤ هذا على أن يمثّل مقام النبي صلى الله عليه وسلم أمامه! ويتصور أنه يسمعه يقول بمثل ما قال لعمر رضي الله عنه، ثم يقول له: أخطأت في فهم الآية يا رسول الله؟!
ثم يقول مقالته المشينة (مع ظهور معناها).
أي أنني أفهم لكلام ربكّ منك يا محمد! وأنتَ أخطأت في فهمها؟!
هذا غاية قول هذا الجاهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد زعم هذا الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ في فهم الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ في مفهوم العدد، وأنه مقصود، وأنه لو زاد عليها لجاز ونفع، ثم كرر مقالته الشنيعة بأن المعنى في الآية ظاهر! وأن العدد إنما هو للتكثير والتعجيز! وأنه غير مقصود فقال: (لقد فهمها النبي صلى الله عليه وسلم على أن العدد فيها مقصود ، وأن الزيادة على سبعين استغفارا قد تنفع، في حين أن المعنى في الآية ظاهر ، وأن العدد جاء للتكثير والتعجيز ، وليس مقصودا ، ولذلك اعترض عمر رضي الله عنه).
فيجاب عن هذا العيّ بجوابين واضحين:
أحدهما: أنه كان يسعه ما وسع عمر بن الخطاب رضي الله عنه! فيلتزم الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتكلم بما لا يليق في حقه، فلم يقل عمر رضي الله عنه: أخطأت الفهم! ومعنى الآية ظاهر!
ولم يعارضه أصحابه رضي الله عنهم والقرآن نزل بلسانهم ولغتهم فيقولوا: أخطأت!
حتى جاء لكع في آخر الزمان، وغلبة الجهل وترأس الحمقى والصبيان! فيقولها بملء فيه: أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم في فهم الآية مع ظهور معناها!
قبحه الله! أي جرأة هذه الجرأة وأي تجاوز هذا التجاوز؟!
والثاني: دعواه بأن النبي أخطأ في فهم الآية (مع ظهور معناها)؟ فيا ويحه: ومن يصيب إذا أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم؟
وحاشاه أن يكون أخطأ صلى الله عليه وسلم، وإنما انتهى إلى ما سمع! وعمل بما خيّر فيه، بيان ذلك أن في القصة والباب ثلاث مقامات:
المقام الأول: هو قول الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80].
وهذا يفهم من جانبين:
الشأن الإلهي والشأن النبوي، أما الشأن الإلهي فهو (المغفرة) أما الشأن النبوي فهو (الاستغفار) فأطلق الله شأنه الإلهي بأن لا يغفر لهم، وخيّر النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه (الاستغفار) ومن هذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم معنى التخيير، كما جاء ذلك صريحاً في غير حديث منها:
ما ثبت عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: قال: «لمَّا تُوُفِّيَ عبدُ الله يعني: ابنَ أُبَيّ بن سَلُولَ جاء ابنُه عبد الله إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أنْ يُعْطِيَهُ قميصَهُ يُكَفِّنُ فيه أباه؟ فأعطاه، ثم سأله أَن يُصلِّيَ عليه؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُصَلِّيَ عليه، فقام عمرُ، فأخَذَ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تُصلِّي عليه وقد نهاكَ ربُّك أَن تُصليَ عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خَيَّرني الله عز وجل، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } [التوبة: 80] وسأَزيد على السبعين، قال: إنه منافق، فصَلَّى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: فأنزل الله عز وجل {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84] » زاد في رواية: «فترك الصلاة عليهم» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قال: «لمَّا مَاتَ عبدُ اللهِ بن أُبيِّ بن سَلول ودُعيَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيُصليَ عليه، فلما قامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِليه، فقلتُ: يا رسولَ الله، أَتُصلِّي على ابن أُبَيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ ! أُعَدِّدُ عليه قولَهُ، فتبسَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقال: أَخِّرْ عَني يا عُمَرُ، فلما أَكْثَرْتُ عليه، قال: أما إني خُيِّرْتُ، فاخترتُ، لو أَعلمُ أَني إن زدتُ على السبعين يُغْفرْ له، لَزِدْتُ عليها، قال: فصلىَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انْصرَفَ، فلم يَمكُثْ إِلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84] قال: فعجبتُ بعدُ من جُرْأَتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، والله ورسولُهُ أعلم» أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي.
وزاد الترمذي: «فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قَبضَهُ اللهُ».
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { إِن تستغفر لهم سبعين مَرَّة} على ظاهره وحقيقته، لا على معنى اليأس وقطع باب المغفرة بصيغة التكثير، وإنما أجراه على التخيير، وهو حقيقة الكلام وصراحته وإن اشتهر في الاستخدام على التسوية واليأس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أجراه على أصله وهو (الحقيقة) والمراد به التخيير، وبه قال قتادة والحسن وعروة كما نقله القرطبي في تفسيره (8 / 220).
قال القاسمي في "محاسن التأويل" (5 / 465) : «وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه، لا ينافي فصاحته –صلى الله عليه وسلم- ومعرفته باللسان، فإنه لا خطأ فيه، ولا بعد، إذ هو الأصل، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم».
وهذا المعنى هو ما عاد إليه المتهوَّر وناقض نفسه! فقال: «ولم يكن يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظهر لعمر رضي الله عنه من دلالة الأسلوب والسياق ، ولكنه تمنى أن يكون المعنى المرجوح راجحا».
وتأمل كيف ناقض قوله! وهذا (التمني!) لا يعد خطأ إذ كان موافقاً لصريح الكلام وحقيقته الأصلية.
فهو خطاب له احتمالان، رجَّح النبي صلى الله عليه وسلم إحدى دلالتيه بناء على صريح التخيير في أول الآية.
ورجح عمر المنع بدلالة من خارج عن النص.
واختلف العلماء أين هي؟ منهم من قال بأنها قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84] وعورضوا بأنها إنما نزلت بعد ذلك بصريح الحديث السابق.
ومنهم من قال بعموم الأدلة الدالة على كفر المنافقين، وأن الكافر لا يصلى عليه.
ومنهم من قال: بأنه من موافقات عمر وإلهام الله له، فجاء الوحي بموافقته بعد ذلك بقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] كما في غيرها من نظائر.
فكلاهما قال بقولٍ له وجاهته من حيث الشرع ومن حيث اللغة، وليس فيهما مخطئ، قال البقاعي في الدرر (8/558) : «لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين، وأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملاً وإلا لأنكر الله الصلاة عليه» انتهى.
وعلى هذا لا يقال بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ، بل أصاب حتى جاء المنع الأخير، ولهذا لم يشكك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فهم النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ولم يقل له: أخطأت، بل ندم على معارضته للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: «فعجبتُ بعدُ من جُرْأَتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، والله ورسولُهُ أعلم».
ومعارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي وهو المحدَّث الملهم يعدها جرأة!
وحاتم يقول: أخطأ رسول الله في فهم الآية مع ظهور معناها! وعمر بن الخطاب: فههما كما أراد الله! وأنه أفهم للأسلوب والسياق!
أما مفهوم العدد:
فإنما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً للتخيير لا أن مفهومه هو الداعي له فظن أنه يدل على المخالفة! وإنه يغفر لهم بما فوق السبعين! مع أنه قول عند اللغويين وأهل التفسير حكاه غير واحد.
قال الرازي في "تفسيره" (16 / 112) : «من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين، يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه، وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب. قالوا: والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال عليه السلام: «والله لأزيدن على السبعين» ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهم أسْتَغْفَرْتَ لهُمْ أمْ لمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الآية فكف عنهم».
المقام الثاني: قول الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84].
وهذه الآية تالية للآية السابقة، وعدها غير واحدٍ ناسخة لها! وقولهم بالنسخ دلالة على مغايرة الحكم أو تبيين مجمله، فلا خطأ فيما فهم من حكمٍ أولاً، وقد روى عبدالرزاق في "تفسيره" (2/160) عن قتادة , قال: «لما نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم} [التوبة: 80] , قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأزيدن عن السبعين» , فقال الله عز وجل: { سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] ».
وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" (2 / 284) : «وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين، رجي لهم الغفران. ثم نسخت بقوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}...».
ومعنى النسخ في كلّ تأكيد منع الاستغفار بعد أن كان مقامه مقام التخيير الذي فهمه النبي صلى الله عليه وسلم، روى ابن جرير في "تفسيره" (14/ 396) عن مجاهد قال: «{إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سأزيد على سبعين استغفارة» فأنزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون: (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) ، عزمًا» انتهى.
وقوله: «عزماً» أي توكيداً للحكم.
فتلخص مما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ في فهم الآية أصلاً، ولو أخطأ ما جاز أن يتكلم عن خطأ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام والأسلوب! فجمع هذا الكاتب المفتون بين بليتين كل منهما توجب استتابة القائل بها:
أولهما: تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم في أمرٍ أصاب فيه ولم يخطئ!
والثانية: سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم! بقوله: أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم!
والواحدة منهما توجب الكفر والاستتابة ممن قال بها، كيف وقد اجتمعتا في مزبور هذا الجاهل نسأل الله العافية!
ثم إن العلماء عندما يتكلمون عما يعرض للنبي صلى الله عليه وسلم من العوارض البشرية من: السهو والنسيان والخطأ لا يعبرون بتعبير هذا المتهور! بل يعدون هذا التعبير وجنسه من الكلام المكفِّر لصاحبه، الموجب للاستتابة، كما تقدم معنا في كلام ابن أبي ذئب وأبي محمد ابن حزم.
وقال القاضي أبو عبد اللَّه بن المرابط: «من قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل لأنه ينتقصه. إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ هو على بصيرة من أمره، ويعلن عن عصمته» نقله عنه القاضي في "الشفا" (2/482).
قال صاحب "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" (7 / 47) : «وفرقوا بينه وبين من قال: إنه جرح أو أوذي بأن الإخبار عن الأذى نقص لا يحسب عليه والإخبار بالانهزام نقص له صلى الله عليه وسلم لأنه فعله، كما أن الأذى فعل المؤذي».
أيضاً: يقال بأن الأصوليين عندما يبحثون الخطأ والسهو والنسيان من النبي صلى الله عليه وسلم يقيدونه بما وكِل فيه إلى (اجتهاده) لا فيما فيه نصٌ عن الله تعالى، فهو أعرف البشر بمراد الله ومفهوم كلامه وأسلوبه.
ولهذا هم يذكرون هذه المسألة في أبواب الاجتهاد، وهل هو جائز من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ مع اتفاقهم أنه لا يقرّ على الخطأ.
ومع ذلك من أدب من يعرف للنبي صلى الله عليه وسلم قدره ومنزلته لا تجدهم يقولون عبارة هذا الجاهل! ولم يقل من عامتهم بله خاصتهم: أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على المذكور أن يتوب إلى الله تعالى حتى يصح له دينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف 24 ربيع الآخر 1434هـ
تعليقات
إرسال تعليق