من المختارات لكم (56): السلفية بين الاعتداء والأدعياء

السلفية
بين الاعتداء والأدعياء!
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115] فسبيل المؤمنين هو العلامة الفارقة في صدق الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وبه تُكشف حقيقةُ الاقتداءِ من زيفِ الادعاء، فكم من مُدَّعٍ لاتباع الكتاب والسنة، وهو على غير سبيل المؤمنين.
ولا يخالف سبيل المؤمنين إلا (المعتدين) الذين وصفهم الله تعالى لنحذرهم من الذين:
[1] يحرفون معاني الوحيين تبعاً لأهوائهم، ممن قال الله تعالى عن أسلافهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) [النساء: 46]
[2] والذين يشترون به ثمناً قليلاً طلباً (للمنصب) و(المال) والله تعالى يقول: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187].
والكتمان نوعان:
الأول: كتمان اللفظ فيقفون دون بلوغه! ويحجبونه عن الناس، ومنه التزهيد في كتب السلف الصالح والنظر فيها، فكيف بمن حذر منها وقال بأنها كتب فيها جفاف؟!
والثاني: كتمان المعنى فلا يبنون لهم حقيقة ما أراد اللهـ وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
[3] ويتبعون ما تشابه منه، فيتركون محكم الوحيين، وما عليه إجماع المسلمين! ثم يتبعون متشابه كلام الله العلي القدير المنزه عن كل نقص، فكيف بكلام الرجال الذي يعتريه الخطأ والتقصير وسوء التعبير؟ وهؤلاء هم الزائغون! كما قال تعالى في جنسهم: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7] وهم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من سمى الله فاحذروهم!».
فمن كانت هذه صفاته فهو من (المعتدين) الذين: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 41] فما انتفعوا بالوحي الكريم، وإنما كان عليهم عمىً ولم يزدهم إلا نفوراً وخساراً والعياذ بالله كما قال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت: 44] وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا) [الإسراء: 41] وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء: 82].
ولن يهتدي المرء بالقرآن الكريم حتى يكون على دلّ السالفين الصالحين وسمتهم، وعلى طريقتهم وسنتهم السلفية النقية الصافية التي يتميز بها الهدى من الضلال والعمى، كما قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق) [البقرة: 137] وهؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم شامة السلف الصالح وأئمته، فمن آمن بمثل ما آمنوا به في العقائد والأحكام والآداب فقد (اهتدى) ومن خالفهم فإنما هم في شقاق.
فمن أراد أن يكون مهتدياً حقاً فعليه بما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الناجي في آخر الزمان: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» فلا أمان لنا في ديننا حتى نتبع طريقة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهم نجوم الدنيا كنجوم السماء التي بها يهتدون!
روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء قال فجلسنا، فخرج علينا، فقال: «ما زلتم هاهنا؟» قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال «أحسنتم أو أصبتم» قال فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون».
فهم أمان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الانحراف والضلال عن السبيل، وفهم مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبهم نعرف (أهل الاعتداء) فننبذهم، ونستبين (أهل الادعاء) فنكشف زيفهم.
والتابعون لهم بإحسان هم على طريقتهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» متفق عليه.
فالتابع نسخة لمن للمتبوع، والتابعون نسخة الصحابة المرضيين، وكل من كان على ما هم عليه فهو (نسخة منهم) و(بقية من السلف) وهو السلفي حقاً وصدقاً وعدلا.
فبما تقدم يبطل كيد (المعتدين!) ويعلم المسلم أن من خرج عن سفينة السلف الصالح هلك، وعامة ضلال هذا الجنس بسبب الهوى!
ويقابلهم (أدعياء السلفية) وهم قومٌ حَسُنَ منهم القصد باتباع السلف الصالح فكان لهم بهذا براءة من الهوى، ولكن تغشَّاهم (الجهل!) وهم يحسبون أنهم مهتدون!
فكما أن الإسلام له أعداء وأدعياء، فكذلك السلفية اليوم لها أعداء وأدعياء! وكم ممن يحمل اسم الإسلام والإسلام منه براء وكذلك كم ممن يدعي السلفية وهي منه براء.
وخلال الأعوام القلائل الماضية خرجت أكثر من فئة تدعي السلفية ولا يُرى للسلفية في أقوالهم وأفعالهم إلا مجرد (الدعوى والانتساب).
والسلفية إيمان! كما تقدم في قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق) [البقرة: 137] وكما أن الله تعالى  أمرنا بأن ندخل في الإيمان كافة، فكذلك هي السلفية، فلم يحققهاً صدقاً وعدلاً من يكون سلفياً في الاعتقاد مفرطاً في العمل! أو مخلاً بالأدب.
وكذلك الإيمان له شعبٌ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
فكذلك السلفية دينٌ شاملٌ كاملٌ تشمل الاعتقاد والعمل والأدب.
اليوم وللأسف- حصر بعضهم عنوان السلفية في: ذم المخالف، والتحذير من البدع وأهلها، والالتزام بأصول (الاعتقاد) وهذا كله حسن.
ولكن السلفية معناها وحقيقتها أوسع من ذلك، فمن أصول الاعتقاد، وفضائل الأعمال، ومحاسن الآداب ما يفتقر إليه الكثير ممن يدعون السلفية اليوم!
وتأمل إلى حال السلف الصالح؟ الذين هم قدوة كلّ سلفي صادق:
اقرأ في تراجم (الحفَّاظ) تجد لك من السلف قدوة، وتأمل في كتب (الزهد) تجد من آثارهم وأخبارهم العجب، وراجع ما كتب عن (الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر) تقف على المفاخر، وعُدْ إلى (سير الأعلام) تجد ما يثلج الصدر، واقرأ في كتب (الورع) تجد عجباً، فلا (يطغى) جانبٌ لديهم على (حساب) جانب.
مع (التحذير من أهل البدع والأهواء ومفاصلتهم) لا يليق بالسلفي الصادق المتبع أن يقصر في العبادة والعمل، ولا أن يتوانى عن الدعوة والتعليم، ولا أن يغفل أدب التعامل والحديث، فما أهل البدع إلا أذىً يزال ويواصل بعده المسير في الغاية العظمى والمقصد الأسمى وهو عبادة الله تعالى وحده، والعلم والعمل.
ومن قبائح صفات الأدعياء: تجاوز حدود (العدل) إلى مهاوي (الظلم) والجرأة على الأعراض والحرمات، والتوسع في النقد إلى حد (البهتان) و(الغيبة) ومؤاخذة الناس بالظِنَّة، وعدم التماس العذر لإخوانهم ما وُجد إلى ذلك سبيلا.
ولو رجعوا إلى سير السلف الصالح، وخاصة من تصدر للكلام في الرجال ونقدهم لعرفوا بأن الأصل في الدين (الإعراض عن الأعراض) وأن عرض المسلم سياجه الحرمة، ولا ينتهك من ذلك شيءُ إلا:
[1] بحقه.
[2] وقَدْرِهِ.
فمن تكلم بغير حق فهو ظالم.
ومن تكلم بحق ثم تجاوز القدر فهو ظالم.
ومن قبائح صفات الأدعياء: ازدواجية المبادئ! وتعدد أوجه التعامل! فيهجرون بما لا يوجب الهجر! ثم في المقابل يصلون وربما يعظمون من ضلاله بيّن، وزلّته واضحة.
ولو أخذوا بمآخذ السلف الصالح، وعرفوا موجبات الهجر والتحذير، واعتبار:
[1] الزمان.
[2] والمكان.
[3] والفعل أو المقالة.
[4] والهاجر والمحذِّر.
[5] والمهجور والمحذَّرِ منه.
وما قرره أهل العلم في أبواب (الأمر بالمعروف والمنكر) و(الجهاد) و(أصول الحسبة) لأصابوا في كثير، وعرفوا أنهم قد وقعوا من قبل في الحالقة وفساد ذات البين.
ومن قبائح طرائق الأدعياء: حصر السلفية في رجل! أو طائفة من الناس لم تجمع الأمة على فضلهم وإمامتهم، وهذا من المنكر العظيم، وقد تكلم عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بكلام يكتب بماء الذهب في أول المجلد الثامن والعشرين من الفتاوى فليراجع، فلا يجوز أن تعلَّق السلفية برجلٍ من عامة السلفيين أهل السنة، وإنما تعلَّق السلفية بـ:
[1] أصول المقالات التي يتميز بها السلفي عن غيره.
[2] وبكبارِ الأئمة المجمَع على فضلهم وجلالتهم، ولا يطعن فيهم إلا من هو متهم في دينه.
أما من عداهم فلا يجوز أن تكون بهم المحنة، وإن كان القدح في السَّلفي -ولو كان من عامتهم- من (علامات الخلل) لا من (موجباته) فيُعتبر به للنظر في حاله، ولا يعتمد عليه للحكم بانحرافه وضلاله.
وقبل الختام:
أدفع ما قد يَرِدُ على خواطر بعض أهل الأهواء والجهال من إيهام، بأن كلامي لا أخص به شخصاً ولا طائفة، وإنما هو عن خلل واقع أُراه من كثير، ومن وصف أهل السنة اليوم بأدعياء السلفية أو الجامية فإن هذا من شأن (المعتدين) في الطرف الآخر! فإنهم خارجون عن السلفية! وشأنهم شأن أسلافهم الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89] فعندما خرجوا عن السبيل، ورأوا أهل السنة عليه! لبسوا على العامة دينهم، وقالوا: لا تصدقوا هؤلاء فهم أدعياء! واختلقوا لهم الألقاب لتنفير الناس عنهم فقالوا: (جامية) و(أدعياء السلفية) ونحو ذلك، وكلها ألقاب في تباب كسرابٍ لا يُخدع بها إلا الغِرُّ الجاهل، وإلا فالعبرة بالبينة، ومنهج السلف له منارات وشعارات مشهورة منشورة، وفي دواوين أهل السنة مسطورة، وهي تكشف انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين.
فيا عبد الله: دع مقالي، ومقال فلان وعلان! وخُذْ مِنْظاراً من كتب السلف لتقيّم به صراع الخلف، وإياك ومناظير الخلف فمنها ما يحجبك عن رؤية نور دين السلف وسيرهم، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف الحوية

صبيحة الاثنين 20 رجب 1435هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني