طَرَفُ رسالةٍ إلى أحدِ الفُضَلاءِ بِشَأنِ الكَلامِ في أبي حَنِيفةَ النُّعْمانِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى

بسم الله الرحمن الرحيم
طَرَفُ رسالةٍ إلى أحدِ الفُضَلاءِ بِشَأنِ الكَلامِ في أبي حَنِيفةَ النُّعْمانِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
فالكلام في أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى بعد 1250 سنة يُعد من فضول القول، وإحياء الكلام عن حاله وعقيدته مع عدم الموجب لذلك من جنس تتبع العورات الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» رواه البخاري.
والعجيب أن يَقدم إليكم مشايخ لإقامة دروس علمية ثم يشتغلون بالكلام عن أبي حنيفة مدحاً وذماً، وكان الأولى الاشتغال بتأصيل عقيدة أهل السنة والجماعة، وتعليم الناس الحق، ونشر الخير، وجمع القلوب.
وسبق أن تكلمتُ مراراً- في أبي حنيفة بما أراه مقام العدل والانصاف على ما عليه الأئمة الأعلام من المحققين المتأخرين كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، والناس فيه بعد ذلك على طوائف، كلها لم تسلم من الخطأ إلا واحدة:
[1] فريقٌ: لم يحقق القول فيه، وأطلق عبارات من ذمّه من غير تمييز بين ما رجع عنه وما لم يرجع عنه، حتى حكموا بكفره! والرجل مسلم.
[2] وفريقٌ: زعم سلامته من كلّ بدعة وخطإٍ في العقيدة، وخالف ما هو ثابت مشهور منشور في كتب العقائد، ووصفه هذا الفريق بالإمامة المطلقة ونحو ذلك، وهذا غلط.
فمن خالف أهل السنة في أصلٍ من أصولها، لا يوصف بالسنية المطلقة فضلاً عن أن يوصف بالإمامة المطلقة في الدين، كيف وهذا الأصل في (الإيمان) وهو المقدم في كتب العقائد، كيف وجمهور السلف على ذمّه والكلام فيه والحطِّ من رُتبتهِ؟
قال السجزي في رسالته إلى أهل زبيد بعد أن ذكر أئمة السنة وأنهم أولى بالوصف بالإمامة (ص: 329): (وكانوا أئمة في العلم، مشاهير بالاتباع، والأخذ عن أمثالهم، وكان في وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، واتباع على مذهبهم لكنهم وقعوا في شيء من البدع إما القدر، وإما التشيّع أو الإرجاء عرفوا بذلك فانحطت منزلتهم عند أهل الحق).
ولكن زماننا غريب، وكما قال السجزي في "رسالته إلى أهل زبيد" (ص194): (وإن زمانا يقبل فيه قول من يرد على الله سبحانه، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالف العقل، ويعد مع ذلك إماماً، لزمان صَغب بالغين- والله المستعان).
[3] وفريقٌ: اعترف ببدعته وأنه يقول بالإرجاء، ومع ذلك بالغ في الثناء عليه، ووصفه بالإمامة المطلقة! ولا أدري كيف تجتمع الإمامة المطلقة مع الاعتراف بالبدعية؟! ولو قالوا: إمام الأحناف، أو إمام أهل الرأي لكان خير من الإطلاق.
[4] وفريقٌ: حمل بدعته على البدعة الدقيقة التي يُعذر المخالف فيها، وسماه وأتباعه (مرجئة الفقهاء) وذكر أن الخلاف صوري! وهؤلاء أقرب للصواب لأنهم بنوا الحكم على قاعدة (يرونها سليمة) فلا تناقض بعكس الفريق الذي قبله.
والذي أراه بحسب علمي القاصر أن أقول:
الرجل تكلم فيه جماعة من السلف بما لا يُستطاع دفعُه، بل جمهور السلف على ذمّه لمَّا كانت (الفتنة) بقوله حاضرةً ذلك الحين، وكان سبب كلامهم فيه مسائل عدة؛ وهي على أربعة أنواع -ذكرتُها في تعليقي على كتاب السنة لحرب الكرماني رحمه الله تعالى-:
النوع  الأول: الكذب والتزييف عليه مما لا يثبت إسناده، فهذا لا يجوز حكايته عنه ولا عيبه به.
النوع  الثاني: ما ثبت أنه قال به، أو وقع فيه، ثم ثبت (رجوعه وتوبته منه) فلا يجوز أن يعيّر بما صحت توبته عنه بإجماع المسلمين، ومن ذلك قوله بقول جهم بن صفوان في الصفات، والخروج بالسيف.
النوع الثالث: ما ثبت أنه قال به أو وقع فيه من الخطأ ومات وهو يقول به كـ(الإرجاء والرأي) فهذا يعد من القوادح في العدالة والديانة، وبها يُعاب، ودفعها عسير.
النوع الرابع: ما ثبت أنه قال به أو عمل به، مما لا يشينه في مسائل الفروع والرأي باجتهاد وله عذره من العلماء كغيره من الأئمة الأربعة فلا يجوز أن يعيّر به هو أو غيره.
فأبو حنيفة رحمه الله تعالى من علماء الإسلام، وهو مرجي العقيدة، ويُعامل كما يعامل به من وقع في هذه البدعة من العلماء الأعلام قبله وبعده، فهذا:
 [1] طلق بن حبيب؛ من التابعين المشاهير الصلحاء، مشهور بالإرجاء، وحذر منه سعيد بن جبير، ومع ذلك ذكر العلماء من فضائله ومناقبه الشيء الكثير، ولم يتدابروا ولم يتهاجروا في الحكم عليه، مع اعتراف الجميع بأنه مرجئ!
[2] وإبراهيم بن طهمان؛ وهو من الغلاة في الإرجاء حتى قال مرة: نوح عليه السلام كان مرجئاً !! ومع ذلك عرف له الأئمة فضله، وكان شديدا على الجهمية، وجاء ذكره عند الإمام أحمد وكان متكئاً فجلس وقال: لا ينبغي إذا ذُكر الصالحون أن يُتكأ!
[3] وعبدالعزيز بن أبي روّاد؛ الزاهد الناسك العابد؛ مشهور بالإرجاء غالٍ فيه، وهو من الأعلام المشاهير، قال مؤمل بن إسماعيل: مات عبد العزيز، فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء سفيان، جاء سفيان، فجاء حتى خرق الصفوف، وجاوز الجنازة، ولم يصل عليها، لأنه كان يرى الإرجاء.
فقيل لسفيان، فقال: والله إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكن أردت أن أري الناس أنه مات على بدعة.
وتأمل لم ينهَ سفيان الثوري الناس عن الصلاة عليه أو الترحم، وإنما أراد بيان حاله.
وقال عنه الإمام أحمد: كان مرجئا، رجلا صالحا، وليس هو في التثبيت كغيره.
وقبله قال ابن سعد في "الطبقات": كان مرجيا وكان معروفا بالورع والصلاح والعبادة.
فهل يقول مثل هذا من يتكلم في أبي حنيفة اليوم؟
[4] وحماد بن أبي سليمان؛ شيخ أبي حنيفة في الإرجاء! ومع ذلك لم يغفل أهل الفضل فضله وجلالته وفقهه، قال عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: كنت إذا دخلت على أبي إسحاق يقول: من أين جئت؟ فأقول: جئت من عند حماد فقال: ذاك أخونا المرجئ!!
ماذا لو قيلت هذه العبارة في زمن الجيل الطائش اليوم؟
[5] وعمر بن ذر الهمداني؛ قال أبو داود: كان رأساً في الإرجاء، ومع ذلك قال عنه ابن خراش: كوفي، صدوق، من خيار الناس، وكان مرجئا.
ماذا لو قيلت هذه العبارة في أي رجلٍ من المرجئة اليوم؟ من صاحب سنة! قالها بحسن نية، أو لمصلحة شرعية، أو غير ذلك! هل سيعذره أولئك الطائشون؟
[6] وسلم بن سالم البلخي؛ مرجئ، قال عنه ابن سعد: كان مطاعا، أمارا بالمعروف .. كان مرجئا.
فهل حملهم إرجاء الرجل على عدم الاعتراف له بالفضل؟
[7] وإبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي؛ التابعي الشاب الصالح، قتله الحجاج ظلما ولم يبلغ الأربعين، قال عنه أبو زرعة: مرجئ مرضي.
[8] وعمرو بن مرة أبو عبد الله الجهني الكوفي، ذكر البخاري عنه أنه يقول عن نفسه: أنا مرجئ! وفي موطن آخر قال: (نظرت في هذه الآراء فلم أر قومًا خيرًا من المرجئة، وأنا مرجئ) ثم نقل البخاري عن ابن عيينة: قلت لمسعر: من أفضل من رأيت؟ قال: ما يخيل إلي إني أدركت أفضل من عمرو بن مرة.
وقال أبو حاتم: كان رجلا صالحا محله الصدق.
[9] وأبو معاوية محمد بن خازم؛ مرجئ داعية إلى الإرجاء، قال عنه ابن المبارك: مرجئ كبير! وكان يدرس عند الأعمش، ويقول له الأعمش: لا تفلح أنت وأصحابك المرجئة، وأخذ عنه الأئمة، ولم يحضر وكيع جنازته، مع أنه أوصى علي بن خشرم بالأخذ عنه لكثرة حديثه عن الأعمش.
[10] ومروان الطاطري؛ مشهور بالإرجاء داعية إليه بل ربما ضرب وآذى في دعوته للإرجاء، قال محمد بن عوف الحمصي: سألت أحمد بن حنبل عن مروان الطاطري فقال: صلب الحديث، فقلت له: إنه مرجئ وإنه يضرب دحيما ومحمود بن خالد والوليد بن عتبة ويؤذيهم فجعلت أضع من قدره وهو يرفع من قدره وقال صاحب حديث عنده حديث أشتهي أن أسمعه!
فهل فعل الإمام أحمد يعد خيانة للدين؟
هذه بعض المواطن، وهي قليلة من بحرٍ كثير، لا أقول هذا دفاعا عن الإرجاء وهو مذهب خبيث، ولا عن المرجئة وهم من أهل البدع مهما كان فضلهم! ولكن أبين به أن الكلام في أهل البدع (من أهل الملة) لا يعني (دوماً) حجب فضائلهم ومحاسنهم، ولا يلزم من بدعتهم عدم نشر فضائلهم، والترحم عليهم (مطلقاً) في كلّ حين.
وقلتُ في مواطن عديدة: أن الكلام فيمن عُرف بالفضل والعلم وهو من أهل البدع مرتبط بالمصلحة والمفسدة، والحاجة إلى الكلام فيه، والتحذير منه، ومتى أمن الناس ذلك، فلا حاجة إلى ذلك.
وكما قلت مراراً: (للسلم كلام وللحرب كلام) فإن كان الأمر سِلْماً، ولا أحد يَذكر بدعته، ولا يمتحن الناس بمقالته، ولا يدعو إليها، فالكف عنه أسلم، وتنشر محاسنه، ومؤلفاته، مع التنبيه على أخطائه إذا ظهرت للناس.
وأما إذا كان الأمر حرباً بين أهل السنة وأهل البدع، وخاصمونا بهم، وبمقالاتهم، فهم لهم تبع! ويحذّر من السابق واللاحق، ويرد القول على صاحبه كائنا من كان، وقد بينت هذا في رسالة عن (الموقف ممن وصف ببدعة من علماء الإسلام) وهي منشورة في الشبكة.
وهذا الكلام عام يقال في أبي حنيفة وابن حزم والبيهقي والنووي وابن حجر وغيرهم من علماء الإسلام، الأصل الكف عنهم، ونشر علومهم، والترحم عليهم، ومتى خوصمت السنة، وعقيدة أهل السنة بمقالاتهم، رُدّ عليهم قولُهم، وحُذِّر من خطئِهِم، ولم يُقبل منهم.
ولهذا دأب علماء السنة من قديم الزمان وحديثه على هذا الميزان، كما تقدم أن نقلت لكم من صنيع الأئمة مع بعض المرجئة، مع أن لهم من المقالات والمواقف الشديدة ضد المرجئة الشيء الكثير، وكذلك غيرهم من القدرية ونحوهم عدا الطوائف الغالية التي كفرها أهل العلم كالجهمية والرافضة.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو من أشد الناس على الأشاعرة، وشرحاً لمذهبهم، وبياناً لضلالاتهم، لما فُتن الناس بمقالاتهم، وحينما يكون في مواطن لا حاجة إلى بيان ذلك عرف لمن له فضلٌ منهم فضله، وإن كان ذمّه وأنكر قوله في موطن آخر، كأبي حنيفة والأشعري والبيهقي والباقلاني والعز بن عبدالسلام في آخرين.
وكذلك الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى؛ فهو من أشد الناس على أهل التصوف والإرجاء ومن قال بقول الأشعري، ومتى جاء المجال والخصام بهم ضد السنة بيّن حالهم وحذر من خطئهم كما نبّه على خطأ الحافظ ابن حجر العسقلاني في مسألة الإيمان من كتابه فتح الباري، في رسالته إلى عالم الأحساء، وفي باقي المواطن: جعل شروحات الحافظ ابن حجر ومؤلفاته من عُمَد مراجعه في التصنيف والعلم، ومثله صنيعه مع خلقٍ كثير ممن وصف ببدعة من علماء الإسلام قبله، لم يعرض عنهم إعراضاً كلياً، ويختفر ذممهم، ويترك علومهم، ويترحم عليهم، ويذكر لهم محاسنهم، ولم يداهن في دين الله تعالى إذا اقتضى المقام بيان حالهم، وردّ مقالاتهم الفاسدة.
ومثله أئمة الدعوة السلفية النجدية في سائر مؤلفاتهم وتقريراتهم رحمهم الله تعالى.
ومما يؤسف له:
أن من تعامل مع أهل البدع بالشدة والقسوة (المطلقة) أغفل أو تغافل عن الآثار المتظافرة المشهورة من بعض مواقف اللين والرحمة والعفو والثناء والترحم على آخرين مما لا مجال لدفعه ولا حجبه!
وبالضد من ذلك:
من ألانَ الكلام مع أهل البدع، وبالغ في الاعتذار لهم، وأهمل أصل التحذير والهجر، يقف على ما يريد، ويدع الأخبار المتظافرة المشهورة من مواقف الشدة والتحذير والزجر مع آخرين، وكل ذلك من الهوى وقلّة العلم بالسنة وبما عليه السلف الصالح.
ومما يؤسف له أيضاً:
التدابر بين أهل السنة رجالاً ونساءً- في (هجر شخص) أو (التحذير من آخر) وكلا الفريقين من أهل السنة، وإنما الخلاف بينهم في (الحكم) على شخص! وهذه من أعظم آفات الزمان، حتى أوغرت الصدور، وافترقت الصفوف، واستبيحت الأعراض! ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن نظر في سير السلف، في تراجم عامة أهل البدع، سيجد من أهل السنة من خالف غيره في الحكم فيه، وذاك يحذر منه، وهذا يثني عليه، ومع ذلك عذر بعضهم بعضاً فيما انتهى إليهم (علمهم) و(حكمهم) ولم يتهاجروا ولم يتدابروا وكانوا إخوانا، واليوم وللأسف- على قانون أولئك الطائشين: كل واحد منهم يوجب على غيره! أن يقول بقوله، وأن يهجر من هجر، ويواصل من وصل، ويحذر ممن حذر منه، ويحب من أحبه، ولا يقبل منك مخالفة، ولا يرضى منك إلا بقوله لا غير! وهذه جهالة وجاهلية وحزبية مقيتة، حذّر منها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين من الفتاوى، وقد نقلته في رسائل عدة، كـ(العينية) و(الرسالة الأوروبية) فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا إخوانا، والسلام على من رضي من السلام ورحمة الله وبركاته.
وكتب
بدر بن علي بن طامي العتيبي

11 جمادى الآخرة 1437هـ

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. افضل الخدمات المنزلية منها مكافحة الحشرات و النمل الابيض
    هناك العديد من الخدمات التي تحتاجها في منزلك و يمكنك الاستعانة بشركتنا لكيلا تبذل اي جهد
    مكافحة النمل الابيض
    مكافحة النمل الابيض
    مكافحة النمل الابيض
    مكافحة النمل الابيض
    نقل وتخزين اثاث
    نقل وتخزين اثاث
    مكافحة حشرات
    مكافحة حشرات
    مكافحة حشرات
    مكافحة حشرات

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني