هــــذا أبـــــي

هـــــذا أبـــــي
مجموعة تغريدات على حسابي في تويتر
(badralialotibi1 @)
مهذبة مزيدة منقحة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
ليأذن لي كريم لحظ المتابعين بأن أكتب بضعة تغريدات عن والدي رحمه الله تعالى فـ(هذا أبي) وهل يُلام الرجل في حب أبيه؟ ونشر مناقبه؟
وقد بحث ابن أبي يعلى في "الطبقات" (2/227) مسألة: مدح الرجل لأبيه وانتصر للجواز وإن كان الأب هو الأصل، ومدح الأصل مدح للفرع الذي هو الأبن! ولكن للبر حقوق فـ(هذا أبي).
بل من كمال الإحسان للأموات ذكر محاسنهم والكف عن مساويهم، فكيف إذا كان (هذا أبي؟) فمن الجفاء أن أذكر مناقب أشياخي وأصحابي ولا أذكره!
والدي رحمه الله تعالى ولد عام 1360 بمدينة (عروى) إحدى أقدم ديار قبيلة المقطة من عتيبة وهي صغيرة المساحة ولكنَّها واسعة التاريخ أحداثاً ورجالا.
توفي والده ولم يبلغ سن التمييز وكانت وفاته وهو في شرخ الشباب وعمره فوق الثلاثين بداء في صدره وهو مشهود له بالخصال الحسنة والشجاعة.
فنشأ أبي في كنف أمّه وجدَّتهِ برعايةٍ ومتابعةٍ من خالِهِ الشيخ الوجيه المؤرخ الراوية محمد بن مدوخ رحمه الله، وهو من كبار الموظفين في أرامكو.
ختم والدي القرآن مرتين قراءة ضبط وتجويد على شيخ الكتّاب مع تعلّم مبادئ القراءة والكتابة، والتحق بمدرسة عروى وكان من خيرة طلابها وقدمائها.
ومن الطريف ما أخبرني به رحمه الله أنه كان ثالث الطلاب الذين قاموا بعروضٍ طلابية أمام الملك سعود رحمه الله لما زار عروى في السبعينات الهجرية.
النزول في صراع الحياة حتّم على والدي طلب الوظيفة فالتحق بالحرس الوطني محاكاة لأبناء مكانه وزمانه! في الفوج الرابع وكان في المدينة النبوية.
وواصل دراسته أظن في مدرسة الفلاح- إلى أن وصل للصف الثاني المتوسط وشارك في تلك السنين في (حرب جيزان) الشهيرة وتوقف عن الدراسة، وبقي في الحرس الوطني حتى تقاعد.
ولن أزيَّف الواقع بنرجسية الحياة، ولن أغمطه وأصف الحال بالدون، فوضع والدي المادي كان كفافاً زهيداً، في غنى ذاتي بسيط (أي: مستور الحال).
لما تزوج والدتي متعها الله بالصحة سكن في مكة في (حي الملاوي) وكان بيته (محطاً) لأصحابه وأقاربه كرماً وخدمة، منزلٌ صغير وسّعه قلب صاحبه.
فأين أمثال تلك الصدور؟ ولا أقول المنازل!
فحجرة الصدِّيقة عائشة الضيقة كانت تضم جسد من هو في الكرم كالريح المرسلة! صلى الله عليه وسلم!
واليوم كبار القصور وهي عند التحقيق كالقبور! كئيبة المنظر، موصدة الأبواب! ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب!
أخبرني بعض المعمّرين شاكراً للوالد مثنياً عليه: أنهم كانوا ينزلون عنده في بيته في مكة في حي الملاوي؛ وهو ثلاث غرف! أبوابها الداخلية من قماش! واصفاً لبساطة الحياة حينذاك.
ومن توفيق الله للوالد أن وهبه والدتي وهي من بيت شجاعة وكرم من أبناء عمومته، وفيها حفظها الله حب للكرم والضيوف والفرح الكبير بهم.
ومن الطريف في نبأ كريم فضلها أنني ذات مرة عدت إلى البيت من سفرٍ يومي قريب!
فقالت لي: ترى عندك عشاء الليلة!
قلت: لمن؟
قالت: فلان من أصحابك اتصل (أيام الهاتف الثابت) يسأل عنك، فقلت: الله يحييك على العشاء الليلة وبدر بيجي!
فوجدت (الذبيحة) تُطبخ، بنفس الكرم والرحابة بضيفي أكرمها الله كما أكرمتني.
سكن والدي في مدينة الطائف عام 1390هـ يتقلب في حي الريان من بيت إلى بيت مستأجراً! وفي تلك السنوات وُلدت عام 1392 وقبلي كان قد رُزق باثنين من الذكور.
وفي عام 1398 بنى بيته في (الحوية) وهي عالية الطائف من الشمال، أرض منبسطة مرتفعة باردة، كانت مقراً للملوك في نزهتهم، وفيها قصر الملك سعود رحمه الله تعالى.
وفيها شيّد مطار الطائف.
وفيها كان مهبط طائرة الملك عبدالعزيز وكان إقلاعها من مدينة عفيف، وهي أول مرة يستخدم فيها ملوك السعودية الطيران الداخلي.
أقام الوالد في الحوية من عام 1398 إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
وخلالها كان ينفق على أهله فوق راتب وظيفته بنقل المسافرين بسيارته الأجرة.
كانت نشأة والدي رحمه الله تعالى نشأة صالحة، معافى من قبائح الطباع والأخلاق، مشهود له بسلامة القلب، مع رحابة الصدر والكرم الواسع.
ومن أجمل ما أخذني الفكر فيه في سجاياه رحمه الله تعالى:
[1ٍ] عدم اعتبار المال، فما يصله منه يصرفه في باب خيرٍ من نفقة وصدقة وإعانة ملهوف ونحوه، ولو كان ممن (يعقد الصرة!) لصار من كبار الأثرياء، ولكن نفوس الجبال ترخص المال من دون (عزة نفسها) وتأبى البخل على الأهل والضيف والصديق.
[2] ومن سجاياه رحمه الله سلامة الصدر، قال لي الشيخ الصالح محمد بن عمر بن جهجاه بن حميد: في والدك ميزة، وهي سلامة الصدر، قلبه نظيف.
وبهذا شهد خلقٌ كثير، وأجزم والله- بأنه ممن يبيت الليل وليس في قلبه من الغل شيء.
[3] ومن سجاياه: البعد التام عن الغيبة ونقد الناس، فلا يحبه، ولا يقبله مطلقا.
وإذا اتسع الكلام في مجلس العائلة فذكرنا له أحد، قال: اتركوا الكلام هذا.
[4] ومن سجايا: سرعة العبرة، فتنحدر دمعته بسرعة عند أبسط دواعيها، تُبكيه الموعظة، وتحرّك عاطفته القصة والصورة المُحزنة، والشعر الجميل الذي فيه التوجد على الماضي الأصيل وذكرياته يفجر ينابيع دموعه بقوة.
[5] ومن كريم سجاياه: الصدق! فوالله ما عُرفت عليه كذبة يُشان بها قط! ومن ثبت عنده عنه أنه يكذب يستقبحه منه، ويراه أنه من قبيح الطباع والآثام.
[6] ومن كريم سجاياه: طرد المجاملة وإبعادها! فلا يجامل في حقٍ يراه، ولا يتردد في رفض ما يراه خطأ ونفسه تأباه.
هذه بعض سجاياه رحمه الله، أما في دينه وحرصه على الصلاة وقراءة القرآن والسباق إلى الصف الأول فهذه زينة المسلم أصلاً وقد تحلى بذلك كله والدي رحمه الله تعالى.
ومن كريم فضل الله على والدي كثرة الصحبة والمعارف، فيعرف أهل الخير وهو معروف لديهم به.
وكم تتهلل أسارير الوجه مني -ولله الحمد- في حياته وبعد مماته لما يرد ذكره رحمه الله في مجالسٍ فأسمع عبارات الثناء والذكر الجميل وهذه نعمة.
سألني عنه شيخنا ابن باز ذات مرة، وحمّلني دعوته لتناول طعام الغداء عنده، فحضر والدي، وابتهج به شيخنا وأكرمه وانبسط إليه وبالغ في إكرامه.
وبالمثل لما نزل شيخنا ضيفاً في بيت والدي ، ففرح به أبي، وبالغ في إكرامه، وحضر جمع غفير من العلماء وطلاب العلم وعامة الناس.
وتلك الليلة من أجمل ساعات حياتي وأنا بين أبي وشيخي.
وكان أبي مسروراً بي حينها باحتفاء شيخنا بي، وقوله عني: بدر ولدي!
وقال لي والدي بعد ذلك بلسان المسرور: (كأن لي رأسين بين الرجال من فرحي وفخري بك!).
ومن كريم خصاله: محبته لأهل العلم، فيذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في المدينة، والشيخ محمد الجامي كذلك، والشيخ الراجحي مطوّع عروى، ويحبهم.
وقيدتُ عنه مسألة فقهية عن الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله، حيث سأله عن الفطر والقصر عمن يكثر السفر كسائق الأجرة، فقال له: يجوز له ذلك.
فائدة:
جرت عادة ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" على ضم كلّ من له عن الإمام أحمد مسألة ولو كانت واحدة، فيترجم للرجل ثم يقول: وله عن إمامنا مسألة واحدة.
ومن شديد ما يكره والدي: التطاول على من ظهر بالعلم والصلاح، بل ربما يزجرني إن سمع مني نقداً في أحدٍ في مسألة علمية أو خطإٍ أخطأ فيه.
 ولكريم حبه للعلماء كنت أستجيز له بالرواية الحديثية عن جمعٍ من العلماء، فوالدي يروي بالأسانيد العالية عن جمعٍ من مشايخي، ومنهم:
[1] شيخنا عبدالقيوم الرحماني.
[2] وشيخنا محمد زهير الشاويش.
[3]  وإدريس بن محمد الكتاني.
[4] ومحمد الأمين بو خبزة.
[5] وعبدالله التليدي.
وجمع كبير من المحدثين.
وكل هؤلاء أروي عنهم وعن غيرهم كثير، وطلبت من والدي أن يكتب لي بقلمه الشريف إجازة لأروي عنه فكتب لي ذلك، ونزولٌ في الإسناد به (علوٌ ورفعة) والله.
ولعلي أُخرّج له رحمه الله (ثبتاً) أسوق فيه أسانيده إلى الكتب الستة.
وهذا مني قليل في عظيم حقه علي؛ رحمه الله فقد أعانني على طلب الحديث والإسناد.
وإعانته لي يعجز اللسان والجنان عن كمال الشكر لله تعالى بكريم ما أنعم علي بهذا الأب، الذي حرص بالغ الحرص على طلبي للعلم، وحمل عني من العبء الكثير، فمن حين بداية نشأتي وهو يخاطبني: بالشيخ، ويؤملني بكلية الشريعة.
وحصل لي موقف أموت دون نسيانه لما بكى بشدة وأنا في الأول الثانوي! وذلك أنني بعد بداية الدراسة بأيام رأيت أحد أصدقائي ذهب إلى الثانوية الصناعية! وكان فيها مكافأة مالية فرغبت أن ألحق به، فالصاحب ساحب!
فعرضت الأمر على والدي، فغضب، وأخذ يذكرني بكلية الشريعة، وأنه لا يريدني للصناعة حتى بكى وأجهش بالبكاء! فاستجبت له، وحققت ما يريد؛ فربحت!
فكان رحمه الله يهتم بي كثيراً، ويحقق لي كل ما ييسر الطلب ويسهله، ويعينني عليه، ولا يكلفني بما يكلف به بقية الأشقاء من أمور البيت وحاجاته، ووالدتي كذلك، بل وكافة إخواني لهم عليّ فضل كبير في إعانتي على طلب العلم، فجزاهم الله عني خيراً.
ذات مرة قالت أمي لشقيقي الأكبر: اذهب واشترِ لبدر عشاء!
فقال: هو الصغير وأنا أخدمه!
فقالت: والله لو تركناه لنسي نفسه.
وكنت حينها مفتون بالمكتبة والسهر فيها!
وكان أبي إذا قام للفجر يمر بي، ويعتب علي سهري لأنني كنت أصل إلى حد الإغماء أحياناً.
ومن العجيب والفائدة:
أن والدي كان يحذرني من السهر ويقول: لا ينشف دماغك!
فكنت أقول: هذا من كلام العامة.
حتى وجدت في تاريخ بغداد من السلف من سهر حتى نشف دماغه! ذكر ذلك الخطيب البغدادي، وذكر أنه من شدة ذلك أخذ الدود يتساقط من أنفه! والقصة في التاريخ، وعهدي بها قبل 20 سنة فلتراجع، وكان عتابه لطيفا.
ومن كريم فضله علي وخدمته تسهيلاً لطلب العلم: لما وجهت للعمل في مدينة الخرمة، فسكنت في بيتٍ لوحدي ليس معي أحد، والسبب -وبه أستطرد- أنني كنت غير متزوج، فلا الشقق العائلية تقبلني! ولا (أقبل أنا) شقق عزاب الموظفين لما عندهم من ضعف الديانة والإقبال على العلم والعمل، فسكنت بمفردي في بيت قديمٍ كبير، وكلَّف والدي أحد عمّاله بخدمتي.
ولما رغبت في مكتبتي ذكرت له أنني أريد نقلها معي، فقال لي: أنا آتيك بها! فأشرت عليه بقسم الحديث منها فنقلها لي بنفسه رحمه الله وسيارته يقودها هو، والكتب والرفوف معه مسافة 200 كلم! فأنزلها عندي وعاد من حينه ولم يمكث طويلاً.
فهل ألام على ذكر فضائله؟
حان الرحيل!
كأن أنفاسي بدأت تضيق بها مخارجها وأنا أقترب لكتابة أحواله الأخيرة ولكن هو قدر الله النافذ على خلقه، حيث تعثرت صحة والدي من عام 1431، فقصرت وظائف الكلى حتى (فشلت) وبدأ في غسيل الدم، وعملية الغسيل كشفت خللاً في القلب فاضطر الأطباء إلى إجراء عملية زرع شرايين وكان ذلك خبراً فاجعاً، وقراراً عسيراً، فوافق والدي، فرافقته مع شقيقي (فارس) إلى باب غرفة العملية، وظاهرنا فيه الرحمة وأرواحنا تشتعل من نار الخوف عليه!
وهو مطمئن تعلوه سكينة مع الذكر والوصية، وأخذ شقيقي فارس وهو لطيف الطبع، كثير الدعابة- يلاطفه فيبتسم.
ومن ابتساماته ما يخالطها الدموع.
فوادعنا وهو ينطق بالشهادتين، وأجريت له العملية واستغرقت أكثر من ست ساعات بلغت فيها القلوب الحناجر، وأبناؤه وأحباؤه معه بالدعاء والصدقة، فزُفّت لنا البشرى بنجاحها، فكان من أسعد أيام حياتي وأكثرها بكاء على كلِّ شيء!
على فضل الله، وبسلامته، ووجداً من ألمه، وتعاطفاً مع حاله.
وما هي إلا أيام قلائل إلا ويعود إلى بيته وأهله، وهو يصارع الألم، وربما ذهب عنه النوم، وأصابه الأرق الشديد، فكنت آخذه في سيارتي، وأسير به مع طريق الحجاز - الرياض مسافة طويلة أقطعها ببطء فينام وربما استغرق هذا أربع ساعات وزيادة حتى أعود إلى البيت، وقد تكرر هذا غير مرة.
وخلال تلك المدة هو مستمر في (عذاب الغسيل الكلوي) وفي شهر رجب تعثرت صحته أكثر وأكثر، وحصل له انتفاخ في بطنه (وهو الاستسقاء) أتعبه كثيرا.
وعرضناه على أكثر من طبيبٍ ومشفى ولم يكن ثمّ تحسنٌ يسر! وصرفت نفسه عن الطعام، وهزل جسمه كثيراً وكأنه شعر بدنو الأجل فأخذ يكثر من الاستغاثة بالله، والدعاء، والوصية لأولاده.
وكان يمنعني من السفر ويقول: أريدك عندي حين موتي ودفني!
ولما كلفت من الوزارة بالسفر إلى الخارج هذا العام في رمضان، أذن لي بالسفر، فقلت: إن أردت جلست، فأمرني بالذهاب.
وعدت ليلة العيد؛ وحالته متدنية! وجسمه ناحل جداً، ولما كنت أغسله، وألبسه ثيابه كان جسمه ناحلا جدا، وبطنه كبير، وأوصاني وأوصى غيري بكثير.
وفي ليلة الثلاثاء 20 شوال قال لي ولأمي: رأيت عند رأسي ساعة بيضاء!
ولم يكن ثمة ساعة! ولكن لعلها رؤيا تعبيرها دنو الأجل!
وفي صبيحتها عقب أن صليت الفجر طلبت الوالدة حضوري، فإذا هو متعب جداً فخرجت به وشقيقي الأصغر يقود السيارة، وكنت ألاطفه بأنه بخير، وأهمز أخي بيدي أن أسرع!
ثم كأنه غضب وقال: تأخرنا.
فقلت: نحن قريب من المستشفى - مستشفى الهدا-.
وقلت ملاطفاً له: يا بوي أنت طيب، اذكر الله فأخذ يردد: الشهادتين مرات عديدة، وفي مرة قال: حي على الصلاة! ولا غرابة فقلبه معلق بها مذ كان صغيرا.
ثم قلت ملاطفاً له أيضاً: (ما شاء الله يا بوي، تقيم الصلاة؟).
فلما وصلنا إلى المستشفى أقعدته على كرسيه المتحرك، وهو يلهج بالشهادتين.
وسرت به حتى وضعته على سريره في قسم الطوارئ.
وساويته وجعلته يستلقي؛ وما إن استوى ظهره إلا ويفزع جهتي شاخصاً ببصره وأنا أقول: (أبوي أبوي بسم الله عليك) وامسح عينيه فدخل في حالة إغماء.
وتوقف قلبه، وأنعشوه يدويا ثم اشتغل القلب بعد 9 دقائق، ولكن لا يزال في إغماء.
وبلغ بي الكرب والخوف عليه المبلغ الشديد.
وبقيت مترددا عليه (الأربعاء والخميس والجمعة) ودمع الخلوة لا تفارقني مع الدعاء والصدقة.
وكانت لا أفارقه حتى بعد انتهاء الإذن بالزيارة، وأنا عنده -بمفردي بعد انصراف الإخوان والزوّار - أقرأ عليه سورة البقرة كاملة، وأرقيه.
وفي يوم الخميس مسكت بيده وهو في غيبوبته!
وقلت: ابوي ... ابوي ... ابوي ... شد على يدي!
فوالله قبضها قبضة خفيفة كاد قلبي يطير معها .. فانفجرت باكياً مسروراً بهذا ..
فقلت مرة أخرى: ابوي ... ابوي .. شد على يدي .. شد .. شد .. تكفى شد .. ثم والله قبضها قبضة ثانية زادت على فيضان الدموع دموعا.
ويوم الجمعة كان حاله على ما هو عليه! من الإغماء وكل جزء من جسمه موصول بالمغذيات وأسلاك متابعة الأعصاب والقلب.
وصباح يوم السبت 24 شوال؛ ذهبت مع شقيقي الأكبرين (بندر وفارس) وما أن علموا بقدومنا إلا وأذنوا لنا بالدخول، فإذا بالأطباء حوله!
قلنا: ما الخبر؟ قالوا: توقف القلب مرة أخرى، وعاد بالصعق! وحالته حرجة!
حينها عرفت أنه سيموت وقلت لإخواني: (أبوي اليوم سيموت!)
فعذلوني!
فقلت: والله إن طمأنينة نزلت في قلبي وسكينة ما ذقتها من قبل إنه لتثبيت من الله لأمر سيكون وسترون.
فأغلقوا من دوننا الباب، وعدنا للبيت لكي نعود بعد ساعات!
وأنا في الطريق أصبِّرهم، وأخبرهم بالمكان الأنسب للدفن، والصلاة، واستقبال المعزين!
فدخلنا البيت، فاستقبلتنا الوالدة، وسألتني.
فقلت: حالته حرجة وأظنَّه ميت!
فقالت مستفهمة: مات؟
قلت: لا؛ وأسأل الله أن يُبقيه، ولكن يا أمي تعرفين شدة خوفي وكربي بمرض والدي، والله إني اليوم في سكينة وطمأنينة من الله لا تفسير لها إلا التثبيت من الرحمن لأمر سيكون!
وما إن فرغت والله- من كلمتي هذه  إلا وهاتف أخي يرن؛ وأمي وأنا حوله!
فأخبروه بموته! فلهجنا بـ: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقبلت رأس أمي، وعزيتها وهي صابرة مطمئنة.
ولقنتها الدعاء: اللهم أجرني في مصيبتي..
وتبع ذلك طمأنينة نزلت على الجميع فلا صارخة ولا نائحة ولا لاطمة ولا شاقة ، ولم يكن أبي رخيصاً.
نعم لم يكن رخيصاً فهو (أبونا) ولكن: هو فضل الله عليه وعلينا أبديه ولا أخفيه.
فكان أولاده في ثبات.
وأمّه -جدتي- ذاكرة صابرة حامدة محتسبة.
وبناته في لوعات دموع الفراق والمصيبة لم يفارقهن الاحتساب، وشكرتهن، وحثثتهن على الصبر فوعدنني بخير غير أنهن طلبن: رؤيته قبل دفنه .... فقبلت.
فاشتعل الهاتف النقال بالاتصالات من كل حدب وجهة! من سائل وباكٍ ومعزٍّ، وارتحل محبوه من بلدانهم للمشاركة في الصلاة عليه ودفنه.
وكان أول الواصلين أخي وصفي روحي الشيخ وجب العتيبي قادماً من الرياض، وفضيلة الشيخ طارق الغويري، وفقهما الله.
وصبيحة يوم الأحد 25 بعد صلاة فجره قمت أنا والشيخ وجب بتجهيز قبره في (السيل الصغير) وفي الضحى قمنا بغسله وكفنه.
ثم دخل عليه الرجال للسلام.
 ثم حملت جسده المبارك بإذن الله إلى بيت أهله، وكشفت عن وجهه فتواردوا عليه من أخوات وبنات ومحارم للسلام.
وتقبيل الميت سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم!
ثم حُمل إلى المسجد وكانت صلاة الظهر، في جامع الدعوة بالحوية، الجامع الذي طالما حفل صفه الأول بوالدي يوم الجمعة من ساعة مبكرة!
وكانت الصلاة مشهودة، حضرها جمعٌ كبير من العلماء والدعاة والمسؤولين وشيوخ القبائل والوجهاء ورجال الأمن؛ من المنطقة الشرقية والرياض والمدينة وينبع ومكة وغيرها فجزاهم الله خيرا.
ومن بينهم وأخصه بالذكر لفضله ولكونه أعظم الناس وداً لأبي:
الشيخ الصالح الوجيه العم: شالح بن فلاح بن تني أبو عبية، وهو من أعلام القبيلة ومن وجهاء مدينة ينبع.
وجدُّه: تني أبو عبية، من مشاهير فرسان عتيبة، وذكره ذائع مشهور.
والعم شالح شقيق روحي لأبي، لم تنجبهما أمٌ واحدة، ولكن هما أكثر من صديقين.
هما شقيقان بالأرواح والصحبة.
خرجت ذات مرة فإذا أبي يخيط أزرار العم شالح!
فعدت إلى جدتي وقلت: يا جدة؛ أبوي يخيط أزرار (أبو) فلاح!
فقالت: ما هي غريبة، هم إخوان وهم (يحبون) يعني من أول سن الصغر!
فلما دخلت الجامع ورأيته أسرعت إليه وقبلت رأسه وعزيته؛ فصُحْبَتُه لأبي أطول من صحبتي له!
ثم تقدمت المصلين فصليت بهم الظهر، ثم أحضروا جنازته فصليت عليه، ثم حُملت الجنازة على أطراف الأيدي، وتسابق الناس إلى المقبرة، وخلق كثير أخطأوا مكان المقبرة فأسرعوا إلى مقبرة (مثملة) مقبرة قريبة من الجامع! بينما كانت وجهتنا إلى مقبرة (السيل الصغير).
وسبب اختياري لها الوصل لبرّ والدي فقبره سكنه البرزخي، فاخترت له الأحسن، فالمقبرة المجاورة قبورها بغير لحد، وإنما هي شق! ومقابر (السيل الصغير) قديمة ذوات لحود.
فسرنا مع الجنازة حتى وصلت المقبرة، فسبقتها ونزلت القبر معي الشيخ وجب وشقيقي فارس فأنزلناه في قبره ببسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتممنا وضع لبناته.
وبعد الفراغ، وحين الخروج؛ حاول بعض الناس أن يشد بيدي لإخراجي فرفضت! فألح عليَّ لإخراجي؛ فلا أذكر إلا إنني قلت -بصوت غضب-: لا؛ أنا آخر واحد يخرج!
وقصدي أن أكون آخر الناس عهداً بقرب أبي رضي الله عنه ورحمه.
فهو والله يفرح بقربي كثيراً، ويستبشر بي، وكانت مرافقتي له في سنوات مرضه شديدة جداً ... أخدمه ... وأقرأ عليه ... وأسلّيه ... بل كان إذا كرب حاله ... واشتد تعبه ... اضطجع معه على سريره وأحضنه احتضان الصبي وأضع يدي على رأسه وأقرأ عليه ما تيسر حتى تسكن روحه.
ولا أغمط برّ إخواني وأخواتي به وخدمتهم له، بل ولا خدمة أمي له وسهرها لسهره، وركضها في خدمته ركض الخادمة المطيعة فجزاها الله خيراً وكتب أجرها.
عوداً إلى المقبرة:
فتوافد الناس للمشاركة في الدفن فحجبوه عنا بالتراب إلى رحمة الله الرحيم والتواب، ثم احتشد الناس علينا لتقديم العزاء تقبل الله منهم الدعوات.
وممن له الموقف الذي ينشر ويذكر ويشهر موقف خالي ثواب بن الحميدي وابنه الحميدي ومواساتهم لنا، ووقوفهم المتواصل من حين مرضه إلى بعد موته فجزاهما الله عنا خيرا.
ومما يذكر ويسدى شكره لله تعالى أن طمأنينة ربي وتثبيته لم تغادرني طيلة تلك اللحظات وكانت تخالجني خطرات عابرات في حياته: (ماذا لو أدركت تلك الحال هل سأصمد أم لا؟) فالحمد لله على فضله وتثبيته، فوالله كأن في قلبي (حجراً) حجب عن عيني كلّ الخطرات والعبرات! غير مرة واحدة لما تقدم بالعزاء ابنٌ لرجل كان من خاصة أصدقاء والدي وأصحابه، فلما سلّم عليّ بكى فقلت: أبوك حبيب أبي، فخرجت من صدري زفرةُ حزنٍ جدباء من الدموع، ولكنها كانت قوية كادت تفلق جدار الصدر.
ومرَّت بي ثلاثة أيام والناس يتوافدون علينا للعزاء والمواساة وأنا في خلوتي أعاتب نفسي على جمود قلبي! وكأن أبي لم يمت!
ولم أكن أذكره إلا عندما أسبق إلى المسجد، فأشعر حينها بوحشة فراقه، حتى صليت فجر اليوم الرابع من بعد دفنه والصلاة عليه، فلما دخلت مكتبتي فتحت هاتفي، وساقتني الأصابع إلى خزانة المقاطع الصوتية، فلما فتحت آخرها إلا وهو تسجيل لأبي رحمه الله تعالى يملي عليّ أبياتاً لخاله محمد بن مدوخ رحمه الله، وكان ذلك قبل وفاته بأسبوعين تقريباً، فسرى صوته في أذني سريان الفتيل إلى قلبي! فانفجرتُ حينها ببكاء كادت أن تُشَل منه أركاني، وينخلع بسببه جناني.
فدَخَلت زوجتي مواسية لي، وقالت كلاماً كثيراً لا أذكر منه إلا أنها قالت: (شف أخواتك ما شاء الله صابرات!).
فرددت بكلمة جدَّدَت منابع الدموع وقلت: (أنا أبوهن لكن أنا وين أبوي؟).
رحمه الله؛ (هذا أبي) مات ولو لم يمت بالأمس لمات غداً أو بعد غدٍ أو متنا قبله، ولكن: للفراق لوعاته ونزعاته، فرحمه الله من أبٍ كريمٍ عفيفٍ نزيهٍ صالحٍ، وشكر الله لكم الدعاء، وعذراً ثم عذراً على الإطالة، وهي مني قليلة في حق والدي رحمه الله، والسلام.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي

ظهر يوم الثلاثاء 18 ذو القعدة 1434

تعليقات

  1. رحم الله والدك يا شيخ بدر وغفر له وأعلى منزلته في الفردوس الأعلى من الجنة.

    ردحذف
  2. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر لي ولي والدي ولوالديك ولك ولجميع المسلمين والمسلمات
    محبكم عيسى بن عايض السحيمي من سكان المدينه النبويه وترغب ان تشرفنا بزيارة لنا

    ردحذف
  3. رحم الله والدك يا شيخ بدر كثيراأسمع شيخنا الشيخ صالح السحيمي يقول أخونا الشيخ بدر العتيبي وغفر له وأعلى منزلته في الفردوس الأعلى من الجنة.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني