من المختارات لكم (68): خطبة بعد وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة يوم الجمعة 3 ربيع الآخر 1436هـ
عقب نبأ وفاة
الملك عبدالله بن عبدالعزيز
رحمه الله تعالى
ليلة ذلك اليوم
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111] الحمد لله (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 1، 2]
وصلى الله على نبينا محمدٍ القائل: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون».
أما بعد فيا عباد الله:
اتقوا الله العظيم حق التقوى، وراقبوه في العلانية والنجوى، واعلموا أن الله تعالى خلق الموت والحياة، وقضى بأن كلّ من على الأرض فان، وأن الموت منتهى الأحياء، وغاية من على البيداء، يقول تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185] ويبقى الله الحي الذي لا يموت، وذو الملك الذي لا يزول، فالموت مصيبة المصائب، وفاجعة النوائب، سماه الله تعالى مصيبة فقال: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106] فهو هادم اللذات، ومفرّق الجماعات، ومن ترتجف عند ذكره القلوب، وتذرف عند نزوله العيون، وله على قلوب الألباء فزعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للموت لفزعا».
نعم؛ يا عباد الله:
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ        متى حطّ ذا عن نعشه ذاك يركبُ
هو الموت؛ الذي مرّ على المصطفين الأخيار، والصحابة والأبرار، والكبارِ والصغار، والرجالِ والنساء، والملوكِ والعظماء، والرفيعِ والوضيعِ، والصالحِ والطالح، والمؤمن والكافر، إذا جانت ساعتُه، ودنت لحظتُه، تقف دونه قوى الخلق أجمعين، وتعجز عن صدّه الجهود، وكلُّ حبلٍ ممدود، (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة: 83 - 87] ويقول تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس: 49].
عباد الله: لقد أصيبت الأمةُ في سحر ليلة يومنا هذا بوفاة خادم الحرمين الشريفين: عبدِالله بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى، وجعل منزلته في عليين.
ولنا في موته حُزنا وموعظة، وما يتذكر إلا أولوا الألباب، نعم؛ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب سبحانه، الذي قال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 156، 157] فالصبر لنا سلوان، والله يحب الصابرين، ويعوضهم الله بصلوات منه ورحمة، ويجعلهم من المهتدين. إن موت رجلٍ عظيمٍ كخادم الحرمين الشريفين، والخليفةِ على المسلمين، فاجعةٌ عظيمة، ونازلةٌ جسيمة، ومصابٌ جلل، وخطبٌ وخيم، وقد جمع الله الأمة تحت رايته، ورضي أهل الحل والعقد بولايته، وكان الناس به على يدّ واحدة، في أمنٍ وإيمان، وعزة وثبات، في زمان انتقاض العروش، واهتزاز الحكومات، وتزلزل الدول، وتلاعب المغرضين بالشعوب ضدّ حكامها.
فمات رحمه الله؛ ودولتُه تحت سلطانه، وشعبُه راضٍ ببيعته، تتابع قلوبُهم وأبصارُهم حلّه وترحاله، وعافيتَه وسقمَه، وتُشفق عليه، وترفع أكف الضراعة لربه وباريه بأن يشفيه ويعافيه، حتى جاءت ساعةٌ تقف من دونها جميع القوى، وتنقطع الحيل، ولا يبقى إلا أمرُ الله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8] فلا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، وعوض البلاد والعباد بالهدى والخيرات، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا عبدالله لمحزونون.
عباد الله: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أكثروا من ذكر هادم اللذات يعني الموت، فإن غاب ذكره عن الأذهان واللسان، فها أنتم ترونه بالأعيان، لا يترك ملكاً ولا مملوكاً، فلعلّها تحيا القلوب، ومن أذنب منّا يرعوي ويتوب، يقول ابن عمر رضي الله عنهما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة فقال رجل من الأنصار من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله فقال: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ».
وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: «لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد» وكان رحمه الله: يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
ويقول الحسن البصري: «فضح الموت الدنيا فلم يترك لذى لب فرحا».
ودخل مالك بن دينار المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن، فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول: مالك، غداً هكذا يصير وليس له شيء يتوسده في قبره. فلم يزل يقول: غداً مالك هكذا يصير، حتى خر مغشياً عليه في جوف القبر فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشياً عليه.
فاعتبروا يا عباد الله، بما ابتلاكم الله به من الموت والحياة، وتوبوا إلى الله جميعاً لعلكم تُرحمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله؛ رحم الله خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز، وفسح له في قبره، ورفع له منزلته في عليين، والناس يموتون ودين الله باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فشرع الله للمسلمين البيعة لولي العهد من بعده، ومن رضيه أهل الحل والعقد من رجالات الدولة، فآل ملك الملكة العربية السعودية إلى ولي عهده سلمان بن عبدالعزيز فصار ملكاً للبلاد ببيعة شرعية صحيحة، وصار سمو الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً لعهده ببيعة شرعية صحيحة، والبيعة من دين الله تعالى، ومن تمام سياسة الحكم، ولا تصلح البلاد، ولا شؤون العباد إلا بعقد البيعة في الذمم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة، ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة: مات ميتة جاهلية» أخرجه مسلم، فيجب على من كان في بلادنا اعتقاد مبايعة الملك سلمان بن عبدالعزيز ملكاً للبلاد، وولياً لأمر المسلمين، وخادماً للحرمين الشريفين، وكذا ولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد، فنتعقد بيعتهم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، في غير معصية الله، ومن كان من أهل الحل والعقد أو حضر مجلس البيعة فيستحب له المبايعة بالمصافحة، ومن لم يكن كذلك فله أن يبايع من ينوب عن الملك من أمراء المناطق والمحافظات والمراكز إن دعوا الناس إلى ذلك، أو يكتفي المسلم بعقد العهد والنية، والبيعة عهد، والعهد كان عند الله مسؤولا، فلا يجوز للمسلم أن ينقض البيعة بعد عقدها، فكيف بمن يستحل الثورات والخروج على الحاكم بعد بيعة المسلمين له؟ وقد قال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله، ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر، إلا كانت الفيصل بيني وبينه» متفق عليه.
وبيعتنا للملك سلمان بن عبدالعزيز أولاً على دين الله تعالى، وما يقوم به معاشنا من الدنياً، ولا يجوز أن يعقد المسلم البيعة على الدنيا فقط، إن أعطي منها رضي ووفى، وإن لم يعط لم يرض ولم يفِ، فإن هذا مذموم على لسان رسول اللهr لا يكلمه الله ولا يزكيه وله عذاب أليم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه، لم يف له».
يقول شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى: فلا ريب أن الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الأمر والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) هذا هو الطريق؛ طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الأمور في المعروف من طاعة الله ورسوله، ولهذا قال جل وعلا: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)  فطاعة ولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، فإن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء، والواجب طاعتهم في المعروف ... فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الأمور في الخير، والطاعة في المعروف، وحفظ الألسنة عن أسباب الفساد، والشر، والفرقة، والانحلال، ولهذا يقول الله جل وعلا: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول)  أي: ردوا الحكم في ذلك إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في اتباع الحق والتلاقي على الخير والتحذير من الشر، هذا هو طريق أهل الهدى، وهذا هو طريق المؤمنين».
ثم صلوا وسلم على من بعثه الله رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم صلّ وسلم على نبيك محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم ارحم عبدك وابن عبدك وابن أمتك عبدالله بن عبدالعزيز، وارفع منزلته في عليين واخلفه في عقبه في الآخرين، اللهم قابله بالعفو والإحسان، ورياض الجنان، اللهم وفق ولي أمرنا سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته على البر والتقوى، اللهم اجعله رحمة على رعيته، وبركة على دولته، وانشر تحت يد سلمان السلم والإسلام، والأمن والإيمان، وأعز به التوحيد والسنة، واقمع به أهل الكفر والزيغ والعناد، وانشر به الفضيلة، واقطع به علائق الرذيلة، اللهم دلّه وولي عهده إلى الخيرات، واحجب به أسباب المنكرات، وحببه إلى رعيته، وحبب رعيته إليه.
عباد الله:  إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني