من المختارات لكم (148): العجالة في مشروعية هجر المبتدع

 

العجالة في مشروعية هجر المبتدع

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه مسلم.

وهذا حديث صحيح صريح في هجر من تظاهر بالعمل بالدين وهو مخالف له، وهذا شأن أهل البدع.

وهجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا في معصية، فدل على أصل الهجر للمخالفة، والمبتدع أشر من أهل المعاصي، وهجر بعض أزواجه وأصحابه زجراً وتأديباً، والمبتدع أولى من يزجر ويؤدب.

وقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا على صاحبكم» وهو مسلم ومع ذلك لم يصلِّ عليه زجراً وتأديباً للحي من أصحابه، والمبتدع كذلك لا يُصلي عليه ذووا الهيئات والمكانات زجراً وتأديباً للأحياء.

والمراد بالهجر إنما حيث المصلحة فيه، إما:

[1] "للهاجر" حماية لنفسه من المبتدع.

[2] أو "للمهجور" زجراً له وتأديباً، ودفعاً لشرّه.

[3] أو "لطرف آخر" تأديباً وتربية للآخرين حتى لا يقتربوا منه.

[4] أو يكون الهَجْر "محض حق لله تعالى غيرة له ولدينه".

فمتى كانت إحدى هذه المصالح الأربع فإنه يهجر، وإن كان من مصلحة راجحة فإنه لا بأس بوصله مع الحذر من بدعته.

وهذا الأصل لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب أهل السنة في "الاعتقاد"، وآثارهم في ذلك أشهر من أن تذكر، كما في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" لللالكائي، و"الشريعة" للآجري، و"الإبانة" لابن بطة، و"ذم الكلام" للهروي، وغيرهم.

وقد كتبت في ذلك كتاباً سميته "اللمع من مواقف أهل السنة من أهل البدع" ولشيخنا بكر بن عبدالله بن بكر أبو زيد كتابه المشهور "هجر المبتدع" ولي مقال مختصر لعلك تقرأه هنا:

https://badralitammi.blogspot.com/2016/12/blog-post.html

وعلى هذا الأصل كافة المذاهب الأربعة المتبوعة.

عند الحنفية:

قال الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1/ 157): «وإمامة صاحب الهوى والبدعة مكروهة، نص عليه أبو يوسف في الأمالي فقال: أكره أن يكون الإمام صاحب هوى وبدعة؛ لأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلفه، وهل تجوز الصلاة خلفه؟ قال بعض مشايخنا: إن الصلاة خلف المبتدع لا تجوز، وذكر في المنتقى رواية عن أبي حنيفة أنه كان لا يرى الصلاة خلف المبتدع».

عند المالكية:

قال زروق في "شرحه على متن الرسالة" (2/ 1025): «أما هجران المبتدع فمن باب النصيحة لله ولرسوله ويتأكد الأمر فيه إذا كانت بدعته في الأصول أو في الفروع المهمة بالابتداع الصريح وما يقرب منه لا سيما إن كان داعية لمذهبه».

عند الشافعية:

وقال الشربيني في "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" (2/ 432): «يجوز هجر المبتدع والفاسق ونحوهما ومن رجا بهجره صلاح دين الهاجر أو المهجور، وعليه يحمل هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم ونهيه صلى الله عليه وسلم الصحابة عن كلامهم وكذا هجر السلف بعضهم بعضا».

عند الحنابلة:

قال ابن مفلح في "الفروع وتصحيح الفروع" (3/ 264): «وفي تحريم السلام على مبتدع غير مخاصم روايتان "م" وترك العيادة من الهجر، ونصه: لا يعاد المبتدع، وحرمها في النوادر وعنه: لا يعاد الداعية، واعتبر شيخنا المصلحة في ذلك، وظاهر نصوصه أنه لا فرق بين من جهر بالبدعة دعا إليها أم لا أو أسرها».

بل حتى أهل البدع!

فهم يرون هجر المخالف لدينهم ولو لم يكفروه: ديناً مع من خالفهم، بل تجاوز الهجر إلى السعي في الأذية ولو بإزهاق الروح، كما حصل من الجهمية وأهل البدع مع الإمام أحمد، والبربهاري، وعبدالغني المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم خلق كثير! فقد صنعوا بهم الفجائع تحت شعار قمع البدعة وأهلها.

فـ: مالكم كيف تحكمون ؟

ثم يأتيك اليوم لكع البليد، والجاهل المريد: يريد أن يهدم هذا الأصل، تحت شبهة ظاهرية زوراً، باطنية فجوراً! يطالب فيها بـ: (نصٍ من الوحيين) فيه: «اهجروا المبتدع!» وهذه من أهزل شبه الزنادقة في كثير من ثوابت الدين، وبها يهدم تفسير السلف، وفقههم، وفهمهم للدين، والله المستعان.

وكتب

بدر بن علي بن طامي العتيبي

سحر الأحد 10 شعبان 1446هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني

من المختارات لكم (123): غيرة الزبير بن العوام وحياء أسماء بنت أبي بكر