من المختارات لكم (12) حاتم الشريف ... المولود الجديد

حاتم العوني ............ المولود الجديد
بعد تلاقح الفقه المنكوس والليبرالية الشمطاء
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ)
(محمد:29)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد:
فقد قرأت ما كتبه حاتم العوني في مقالٍ بعنوان (سنصدع بالحق) في مجلة (أنباؤكم!) وقد رأيت من دلائل الفتنة بالذات، والفتنة بالملذات، والفتنة بالقنوات، الشيء العظيم، وكأنها ظلمات فوقها ظلمات في كلام العوني!
وهي فلتة من فلتات العوني بعد عددٍ من المقالات والصيحات الدالة على هوس التعالم، وفتنة الشهرة التي يتسابق إليها الكثير من المفتونين أمثاله.
وسبق أن كتبت مقالاً عنوانه " كشف المكر والتزييف في الموقف من دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب في كلام حاتم الشريف" وهاهو اليوم يخرج بهذا المقال، ويؤكد ما سبق من انحرافه وينادي فيه من وراء طرفٍ خفي إلى:
( 1) مناصرة الليبرالية!
(2) اتهام كبار العلماء بالجمود، وإلحاق العنت بالأمة، والتقصير في الفتوى، بل وكتمان الحق!
(3) فتح أبواب كثيرة، هدماً منه لقاعدة (سد الذرائع).
(4)  تقريب أهل الضلال، جهلاًً منه بالخلاف السائغ وغير السائغ.
(5) دعوته إلى الاختلاط.
(6) وتأنيث المحلات النسائية.
(7) تقريب الشيعة، والإذن لها بحقوقها!!!
(8) مراجعة دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب في قضية التكفير، وربط التكفير بها!
فيقال:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة) قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة).
وهذا زمانك يا حاتم! وإلا من أنت في زمرة العلماء ديانة وعلما؟ حتى تتكلم بلسان العلم و(نا) الجمع! وترشد الأمة إلى فتاويك وصيحاتك في المجلات والقنوات، وتتزعم مشروع (بداية إصلاح الفتوى؟).
أتعقل ما تقول يا مخبول؟
مثلك أصغر وأحقر من أن يتكلم في أدنى أدنى مسائل الخلاف تحقيقاً وتنقيحاً، وفتاويك ورسائلك قدمت بها عقلك ودينك على طبق، حتى عرف أبسط الناس مبلغ دينك وعقلك، ولكن لا عجب!
خلالك الجوُّ فبيضي واصفري    ونقري ما شئتِ أن تنقري!
فالجوُّ الذي أباح لأهل الفسق والمجون، وكتاب الأعمدة الصحفية، وروّاد القنوات الفسقية أن يتكلموا في الدين والحلال والحرام؛ ما باله يمنعك وأنت دعي العلم والشريعة؟
ولكن: موعدك وإياهم عندما يقال للمفترين: (آَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) (يونس:59-60).
وللمتأمل أن يتأمل في آفة العوني وأمثاله من أدعياء الفقه والعلم من لغة التعالي، وتفخيم الذات في خطابه المذكور: فعد نفسه من (المتخصصين في العلوم الشرعية!) ولا أدري ما ميزان التخصص! أمجرد الدراسة النظامية؟ أم الشهادة الأكاديمية؟ فها هو هذا التخصص يخرج علينا اليوم بكلام المتنكبين المنحرفين عن السبيل.
فالتخصص المحمود هو الوقوف عند محارم الله، وتعظيم خطاب الشرع، والوقوف حيث وقف القوم، والتأدب مع العلماء الذين أوصى بهم نبينا صلى الله عليه وسلم خيراً.
أما مجرد حفظ المعلومات، وكتابة المطولات فلا تدل على حسن الاتباع، وصدق الانصياع للحق، فهاهم أنصار الضلال يتكلمون اليوم وقد أوتوا علوماً ولم يؤتوا فهوماً، وأتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأتوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة، (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأحقاف:26).
قال العوني: (سنصدع بالحق!!)
وهل كان علماؤنا على الباطل؟
وأي حقٍّ تصدع به يا عوني؟
أينك:
عن زنادقة العرب، وملاحدة السعودية الذين يكتبون في صحافتنا؟
أينك:
عن تقرير التوحيد، ونشر السنة في البلد الحرام؟
أينك:
عن حقوق المسلمين المضطهدين في مشارق ومغارب الحق الإسلامي؟
أين غيرتك وحميتك -إن كانت لك غيرة وحمية-:
عن نزع حجاب المسلمات في غير بلد؟
أين صدعك بالحق:
عن المنكرات التي تهافت الناس فيها اليوم؟ بشتى أشكالها وألوانها؟
أين صدعك بالحق:
ضد عباد القبور والأضرحة، ونداء الرافضة لإحياء مزارات أئمة أهل البيت في البقيع؟
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة:85).
*****
 لقد هاجم العوني هيئة كبار العلماء ووصفهم بـ(الإفتاء الرسمي) وأنهم يبالغون في تطبيق قاعدة (سد الذرائع).
فيقال:
إن الإفتاء الرسمي لم يكن من حثالة الناس، ولا من عموم الخرقى، ولا من المتسلقين إلى الشهرة عبر المجلات والقنوات الفضائية، وإنما أُسند الإفتاء الرسمي إلى خيار الأمة كأمثال الشيخ محمد بن إبراهيم وعبدالله بن حميد وعبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين وأمثالهم من أهل العلم والفضل رحمهم الله تعالى، وتنوّرت الأمة بفتاويهم وتوجيهاتهم، وساروا على ثاقب أنظارهم زمن انفجار المعلومات، واختلاط المفاهيم، وهم يوصون بما أوصى به الأسلاف من قبل، بل أوصى به الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى.
فالله تعالى يقول: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(الجاثية:18).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجذ).
وروى أبو نصر المروزي في "السنة" وغيره عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال : (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) .
 وفي رواية عند اللالكائي عنه قال : (إنّا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع وللن نضل ما أن تمسكنا بالأثر).
وروى الدارمي والآجري في "الشريعة" عن محمد بن سيرين أنه قال : (كانوا يرونه على الطريق ما دام على الأثر).
وروى اللالكائي عن شاذ بن يحي أنه قال : (ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق من سلك الآثار).
وروى أيضاً عن الأوزاعي قال: (ندور مع السنة حيث دارت) .
وروى أيضاً عن سفيان الثوري قوله: (وجدت الأمر الإتباع) .
وروى البخاري في "صحيحه" عن حذيفة رضي الله عنه قال : (اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً ، وإن تركتموه يميناً أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً).
وروى ابن وضّاح والدارمي وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (كيف أنتم إذا البستكم فتنة يربوا فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا ترك منها شئ قيل: تركت السنة !! قيل: متى ذلك يا أبا عبدالرحمن ؟ قال: ذلك إذا ذهب علماؤكم وكثرت جهالكم وكثرت قراؤكم وقلّت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير دين الله).
ولم تكن فتاوى علمائنا التي استقر عليها حال المجتمع إلا عن أدلة الوحيين، ومقالات الأسلاف الأولين، ولم يأنف منها إلا الشذاذ من الأفراد الذين حنّ إلى طريقتهم حاتم العوني، وانتهج نهجهم.
واختيار ولي أمر المسلمين جملة من العلماء يرجع إليهم في مسائل الخلاف، أمرٌ تقتضيه ضرورة الحياة في سياسة كلّ دولة - مسلمة كانت أو كافرة- ونحن معاشر المسلمين أولى بالائتلاف ونبذ الخلاف، وقد كان عامة الصحابة يستأمنون فتاوى كبار الصحابة، ويرضون بقضائهم، ولا يخالفونهم في شيءٍ مما اختاروه اجتهاداً، ولابن عباس مع عمر، وابن مسعود مع عثمان عبارات لا تُجهل، تدل على احترامهم لفتاوى العلماء، وطلبهم (مصلحة الوفاق) ونبذهم لـ(مفسدة الافتراق) ولم يقل واحدٌ منهم قط (سأصدع بالحق) إلا مقابل منكر لا يجوز السكوت عليه، أما مسائل الخلاف فلم يكن الأمر منهم كذلك، كيف والأمور التي ينادي إليها العوني من مسائل مفارقة الحق، وهدم الشريعة، ومصادمة النصوص، من حيث يشعر أو لا يشعر!
ولكن مما يخشى منه أنه يبتغي العزة بغير الله! فغرّه سطوة الليبرالية اللعينة على الصحف مدحاً وذمّاً، مع سياسة التغريب الكاسحة على العالم العربي والإسلامي، فابتغى منهم الثناء والتمجيد والتلميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال العوني: (وكنا نترفّقُ في عَرْضنا لاجتهاداتنا وفي اعتراضنا على فتاواهم ؛ طمعًا في قبولها والاستفادة منها . وكنا في مقابل ذلك الترفُّقِ نتقبّلُ من بعض المشايخ وطلبة العلم حُزْمةً من التصنيفات الجائرة لنا وللتُّهَمِ الجزاف التي كانت تُطلق علينا , وأرجو أن لا نترك ذالك الترفُّـقَ ولا هذا التقبُّـل، ولكننا استمررنا بالتلطُّفِ في المخالفة إلى حدِّ العجز عن الإصلاح ، وإلى حد ضعف التأثير).
أقول: هذا جبنٌ وخورٌ منه، بل سيحاسب على هذا الكتمان إن كان عن أمرٍ حله وحرمته معلوم من الدين بالضرورة، والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(البقرة:159) ولا يُعلم عن علمائنا في (الإفتاء الرسمي) كما تسميه من أفتى بما يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أو بباطلٍ ينتظر صدعك بالحق الذي عندك.
أما إن كانت مسألة محلها محل النظر والاختلاف، فلم يمانعك أحدٌ –يا كذاب- من طرحها، فما زال العلماء يختلفون، ويُغربون في المسائل، وبعضهم يردّ على بعض! ولكن:
لما كان في وقتٍ مضى يتربع على عرش الإفتاء أئمة الدنيا، ونوادر الدهور، من كبار العلماء كنت كالحشرة في جحرها لا مكان لك في زمرة الرجال فضلاً عن زمرة العلماء الأبطال، ولو خالفتهم ببعض شذوذاتك، وطرفٍ من انحرافاتك، لكانت: تحميضة من وجه ابن باز، وشرارة من عين ابن عثيمين، كفيلة بأن ترديك أسفل سافلين.
فإلى عشك فادرجي ... يا رويبضة!
فإن كان وسعك سكوتك عن منعهم بعض أسباب الرذيلة والانحراف في زمن التماسك، فسكوتك اليوم أوجب وألزم في زمن التهافت والتساقط، وانقشاع الأقنعة!
ولكن (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ)(محمد:29) فأخرج الله فساد طويتك، وتَلَفَ نيتك، ولا زالت الأيام والليالي تتمخض منك المزيد، وهكذا هو سبيل المارقين من ضلال إلى ضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
*******
يقول العوني في أسباب سكوته عن بيان الحق المزعوم: (مجاملة للمشايخ والتيار المتوقّفِ عند اجتهاداتهم فقط وتطييبًا لخاطرهم على حساب الإصلاح الديني ! وهذه معصية لا يجوز أن تستمر ؛ لأن مصلحة الدين تستوجب عدم فعل ذلك).
فيقال: قد اعترف المخذول بالعصيان، والمداهنة في دين الله تعالى، وجاء بلسان العفن الليبرالي الفاتك به وبأمثاله من تسمية المسلمين المتبعين بـ(التيار) وتسمية تمييع الدين ومخالفة سبيل السالفين من المهاجرين والأنصار بـ(الإصلاح الديني) وسيأتي لهذا في كلامه أشباهٌ ونظائر!
وهذا (التيار) قبلوا من يُرجى من الله قبولهم، واستأمنوا فتاويهم، ورضوا بدينهم وعلمهم، في مسائل الإجماع والاختلاف، فما شأنك وشأنهم؟
فاطرح رأيك الفقهي من غير نبز لمخالفك يا مدعي المعرفة بالاختلاف السائغ من عدمه، ولا تأخذك في بيان الحق لومة لائم، وسترى كيف يعاملك العلماء الصادقون.
******
ثم قال: (وإما رضوخًا لفكرةِ أنه لا داعي للفَتِّ في عضد المؤسسة الدينية الرسمية ، وذلك من باب تقديمِ دَرْءِ مفسدةٍ أكبر بأخفّ . ولكن أثبتت الأيام أن تقدير أصحاب هذا التبرير للمفاسد والمصالح كان منكوسًا).
فيقال: هذا الكلام وأمثاله، لا يستقيم إلا لطالب الشهرة، ومبتغي التمجيد الإعلامي! وإلا فالعاقل البصير يسعى إلى الابتعاد عن مخالفة ما استقام عليه أمر الناس، ويرشد الناس إلى احترام رأي العلماء، كيف والواجب على مثله ممن (تزبب قبل أن يتحصرم) أن يستحي -أصلا- من الكلام في أدنى مسائل العلم وأجلاء العلماء بين ظهرانينا؟
لقد مرّ عبر التاريخ من كبار العلماء مَنْ إليهم مرجعية الفتوى، واحترمت الناس أقوالهم، ولا يخرجون غالباً عن رأيهم، من فقهاء الصحابة كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم.
والفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعد وسليمان ابن يسار رحمهم الله.
ومن جاء بعدهم: كأبي حنيفة ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، رحمهم الله.
فكانت تجفُّ ألسنةُ الكثير من جهابذة العلماء عند بغية مخالفة عالمٍ منهم في مسألة (نظرية اجتهادية) وترجع إليهم الأمة عند اشتداد الخلاف، وتشعب المقالات.
ولا ضير؛ فبذلك يستقيم حال البلاد والعباد، وتروق سياسة الدولة، ومن خالفهم فقد فتّ عضد (الدولة) لا (الإفتاء الرسمي).
إن احترام رأي العلماء، وجمع الناس على فتوايهم في المسائل النظرية، ليس رأياً منكوساً يا عوني؛ بل الرأي المنكوس هو: الشرود عن السبيل، والشذوذ عن منهج الأكابر، في زمن غياب الرقابة، وتكلم الرويبضة! هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو عارض عالمٌ من العلماء فتوى اللجنة الشرعية الرسمية بفتوى مخالفة في مسألة نظرية لم يكن هذا فتاً في عضدها، ولطالما وقع مثل هذا في مسائل عدّة، ولا يتوقف العالم عن الإفتاء، أو يسكت عن رأيه إلا إن أحدث رأيه فتنة وفرقة في الصف، فحينذاك فالكلام للسلطان، وبأمره يفصل النزاع، ولا يعني هذا رجوع كلِّ صاحب قولٍ عن قوله، وإنما يطلب من صاحب القول المرجوح الكف عن إشهاره مراعاة لمصلحة الاجتماع، وهذا لا يكون إلا من العالم الثقة، لا من المتسلقين على منابر الصحافة والقنوات الفضائية، يرومون بذلك مجاراة العلماء الأكابر، أمثال العوني وأشباهه.
******
ثم قال العوني عن بعض أسباب سكوته عن الحق : (وإما من باب تحميل المؤسسة الدينية الرسمية مسؤوليةَ الإصلاح والتأثير , ولو برأيٍ فقهيٍّ مرجوحٍ صادرٍ منها (فالاجتماعُ على الرأي المرجوح خير من التفرق على الرأي الراجح) , ولو مع مبالغةٍ من المؤسسة الدينية الرسمية في استخدام قاعدة سدّ الذرائع (الصحيحة في أصلها) , ولو مع ضعف إدراك بعض أعضائها لحاجات المرحلة ,ولو... ! ولكن توالت خسائرنا الإصلاحية ؛ لأننا بذلك قد حمّلنا المؤسسةَ الدينية الرسمية فوق طاقتها , بسبب المبالغة في تقدير حجم التأثير المتوقَّعِ لها . ولذلك تجاوزها القرارُ السياسي , الذي لا يمكنه إلا أن يواكب الـحَدَثَ وأن يتعايش مع الواقع , إن أمكنه ذلك بالمؤسسة الدينية (وهذا ما يتمناه) , أو بدونها (وهذا ما لا يتمناه)...).
قلت: وهذا الكلام الليبرالي من وراء البشت واللحية الخفيفة! فيه أكثر من خلل:
من ذلك:
أن الإصلاح والتأثير ليسا مسؤولية أحد دون أحد، بل هو واجب الله تعالى على الجميع، من الحاكم والبطانة والعلماء والرعية حتى السوقة، فالدين دين الله تعالى على كلّ المكلفين، والله تعالى أمرنا بما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى، وهذه سمة المؤمنين عامة، كما قال تعالى (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:71).
فالسعي إلى الإصلاح والتأثير:
ليس بسيف علمك الهزيل وحده يا عنترة الجهل!
بل يكون بقدوم كتائب التوحيد والسنة:
تحت لواء: قال الله، وقال محمد صلى الله عليه وسلم.
ودروع: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسهام: الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة، وغارات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا.
وسيوف: رجالٍ (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(الأحزاب:23).
السعي إلى الإصلاح والتغيير:
لا يكون بتمييع الثوابت، ونقض أساسات الدين، والانجراف خلف رغبات الغرب، وأذناب الغرب المستعربين من العلمانيين والليبراليين.
السعي إلى الإصلاح والتغيير:
إنما يكون في الحادث المتغير المستجد لا في الثوابت الخالدات التي مضت عليها القرون يتناقلها العلماء جيلاً بعد جيل.
عندما يداهم فكرك الإخواني المائع ما تظن أنه ضرورة من ضروريات الحياة، وحاجة من حاجات التقدم العصري، التفت بعينك -إن كان لك عين ترقب الله والدار الآخرة- إلى تلك المستجدات واعرضها في سوق الشريعة هل تسام وتباع تشترى أم لا؟
لا أن تلتفت إلى ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم وتساومه على قوله، وتبحث لقوافل الفكر الغربي عن مخارج تضرب قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، وتقول: افعلوا ما شئتم فأنتم الأعلون، وقولكم هو النافذ!
لقد سئم عامة المسلمين، بل وخاصة النساء والصبيان من سياسة التخاذل الإخواني الذي يتربع على منابر الإعلام اليوم، ويسعى إلى تمرير كلّ ما يطبخه الغرب، مقدماً على الأطباق الليبرالية، بدعوى ضروريات الحياة المدنية، وعصرية المواجهة، و(إصلاح الخطاب الديني).
لعنهم الله! وهل كان كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاسداً أو عرضة للفساد حتى يأتي أمثال هؤلاء النوكى والمهرجين فيصلحوه للناس؟
اتركوا كلام الله على ما هو عليه من جلالته وهيبته وإحكامه وبيانه.
واتركوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو وهيبته وإحكامه وبيانه.
واتركوا كلام أعرف الناس بمراد الله ومراد رسول الله كما هو بوضوحه ورصانته.
ثم انظروا إلى الناس كيف يدخلون في دين الله أفواجا.
ولكن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلون) رواه الإمام أحمد.
ولا أخالك يا عوني إلا تبيعاً لهذا الفريق!
******
ومن تجاوزات العوني في هذا الكلام:
زعمه أنه هيئة كبار العلماء تبالغ في تطبيق قاعدة سد الذرائع!
فيقال: إن قاعدة سد الذرائع، قاعدة فقهية لا أصولية! والقواعد الفقهية: حصيلة النظر في ثلاث جهات (النص) و(الواقع) و(الأثر) وهذه الأنظار الثلاثة لا تتحقق إلا في عالم بلغ رتبة الاجتهاد في (جمع النصوص) ثم في (فقه الواقع) ثم في (دراسة أثر الحكم).
وهذا ليس من شأنك، ولم تبلغ عشر معشار أهله، فلم تصل إلى رتبة أهل الاجتهاد، الذين استوعبوا جمع النصوص، وفقه الواقع، ومعرفة أثر الحكم.
فهم عندما يتكلمون عن أمر بأنه لا يجوز، فإنما تكلموا بموجب (نص سابق) و(واقع متهافت مقبل على الانحراف)، و(أثرٍ متحقق بمقدمات سليمة).
وقد أثبتت الوقائع في قديم الزمان وحديثه هذا الكلام! وبذلك انتهجوا نهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم أموراً عدة ومن جليل الحِكَمِ في ذلك سدّ الذرائع كمنعه من اتخاذ القبور مساجد، ومن اتخاذ قبره عيداً، ومن دفنه في غير مكان موته، وغير ذلك.
وقد رأى ابن مسعود جماعة يسبحون بالحصى! فقال: (والله إنكم على ملة أهدى من ملة محمد، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة!) فكانت نهايتهم قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنهم مع الخوارج يوم النهروان!
وزماننا زمان فتن لا يميزها، ويعرف السبيل إلى النجاة منها إلا العلماء الراسخون، كما قال حذيفة رضي الله عنه عن أمثال هذه الفتن وأمثال أولئك العلماء: (فتن قد أظلت كجباه البقر يهلك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك).
فليست معرفة ميزان الوقائع وما يؤدي إليها من الذرائع من شأنك يا رويبضة! فاعرف قدر نفسك.
******
ومن فلتات هذا الكلام:
وصفه هيئة كبار العلماء بالفشل المتوالي في المسيرة الإصلاحية! وأن القرار السياسي -ويريد به الملك عبدالله ونظام الحكم- قد تجاوز هيئة كبار العلماء.
وهذا –إن حصل- إنما حصل لما ظهرت أنت وأشباهك ممن يلبسون على الراعي والرعية أمر دينهم، ويورثون الشكوك في المجتمعات، ويوردون عليهم متشابه الأدلة التي فُتنوا بها، وإلا فالراعي والرعية: يعترفون بجلالة العلماء ويستأمنون رأيهم، منذ قيام هذه الدولة إلى اليوم، وهو ما جاء في كلمة خادم الحرمين خلال افتتاح مكتب المفتي العام بمحافظة الطائف عام 1430هـ، فالخوف ليس من زلل السلطان، ولا من تقصير الرعية! وإنما الخوف منك أنت وأشباهك من الأئمة المضلين الذين يلبسون على الناس أمر دينهم، ولا نراكم إلا من بني جلدتنا وتتكلمون بألستنا، في آخرين (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ) (التوبة:32).
*******
ثم قال العوني: (فهل آن أوانُ الصدع بالحق , والإعلان عن اجتهاداتنا الفقهية بالصوت المرتفع, وبالصوت المرتفع وحده).
فيقال: ومن ربط على فيك؟ تكلم لنرى محط قدمك بين زمر الناس، وأين هي عن منازل العلماء، بل منازل طلاب العلم.
فهات ما عندك يا مسكين، فالأمر قد راق لك، فقد سبقك إلى هذا الميدان البطولي -الذي تمخضت به بعد أمد- حثالة الخلق من الممثلين والمغنيين والصحفيين، من الحليق والماجن والفاسق والملحد والمتردية والنطيحة حتى لم يبق أصلٌ من أصول الإسلام إلا وقد تكلموا فيه وناقضوه كما جمعته في كتابي (قمع النوابت من زعزعة الثوابت).
فتكلم –ياعوني- وأرنا اجتهاداتك الفقهية؟
ماذا تريد؟
أتريد .... الدعوة إلى الاختلاط؟
فأنت مسبوق، فقد صدرت فتوى إبليس قبل قرون عدّة بذلك، وعقد على نفسه العهد بأن يكون ثالث المختلين من الرجال والنساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما).
ويقوم بفتح باب العين والفرج، فحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: (على كل نفس من ابن آدم كتب حظ من الزنا أدرك ذلك لا محالة فالعين زناها النظر والرجل زناها المشي والأذن زناها الاستماع واليد زناها البطش واللسان زناه الكلام والقلب يتمنى ويشتهى ويصدق ذلك أو يكذبه الفرج).
أتريد التقارب بين أهل السنة والتوحيد وأهل البدعة والشرك؟
مسكين؛ تأخر مشروعك! فأنت مسبوق، فقد سبقك من لبس الحق بالباطل، فقال تعالى: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(آل عمران:71).
وقال تعالى: (وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة:42).
ويأبى الله تعالى أن يجمع بين أهل الحق والباطل، والله تعالى يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(الأنفال:39).
فالدين كله لله، لا يؤخذ إلا من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ)(الممتحنة:4).
فرضينا بإبراهيم أسوة لنا بالبراءة من كلّ ملحد مرتاب، محادٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولتهنأ بسلفك من أهل الضلال الذي يريدون الجمع بين الحق والباطل؟ ليلبسوا على الناس أمر دينهم.
أم تريد:
التبرج والسفور وكشف المرأة وجهها؟
مسكين؛ فأنت مسبوق من إبليس أيضاً، فقد سبقك في هذا المشروع، واستشرف كلّ امرأة متبرجة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
وسبقك إلى ذلك أهل الجاهلية الأولى الذين قال الله تعالى عن نسائهم: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(الأحزاب:33) .
فلا تظن أنك في ميدان الباطل لوحدك، فلكل دين وارث، فهنيئاً لك بميراث أبي مرة!! وأبي لهب وأبي جهل.
*******
ثم ذكر العوني ملاحظاته على هيئة كبار العلماء، فذكر منها:
(1) المبالغة في تطبيق قاعدة سد الذرائع، وسبق الكلام على ذلك.
(2) مصادرة الاختلاف السائغ، والتشنيع عليه! هكذا قال: وكذب وايم الله؛ فالاختلاف السائغ لا يصادر، كيف وأعضاء هيئة كبار العلماء يختلفون فيما بينهم في مسائل خلافية عدة، ولم يجبروا أحداً على قولٍ لا يراه، وربما كتب بتوقيعه: لا أوافق، أو كف عن التوقيع مراعاة للمصلحة، فهذا القول من العوني زيف زور يريد به التهويل والتمويه، وإلا ففي حقيقة الأمر ليس مرام العوني (الخلاف السائغ) بل يريد تحقيق (الخلاف الشاذ) الذي تُقرّ به البدع، وتُخالف به السنة، ومقاله عن دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب يوضح هذا أيما توضيح.
(3) أن هيئة كبار العلماء تخلط التقاليد بالدين! وضرب على ذلك بمثال وصفه بالمعضلة، وهو: عبائة الكتف!
وهذا من سخف عقله، فالتقاليد كيفما كانت لا تخرج عن مظلة الدين، فإنها: إن كانت محرمة ظهر خلافها للدين، وإن كانت مباحة فهي من الدين، ولهذا ذكر العلماء المباح من الأحكام التكليفية الشرعية، بموجب (التخلية الشرعية) و(أصل البراءة) وهذا لم يكن إلا بخطاب شرعي سواء بالإقرار أو السكوت موافقة.
وعبائة الكتف من اللباس، واللباس من المباحات، ومع ذلك لم يخرج عن أصل ما أمر به الشرع من حيث:
(1) قدره، فأُمرت المرأة بلبس الساتر السابغ الطويل، وأُمر الرجل بعدم الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، وعدم الاحتباء به!
(2) ومن حيث لونه، فنهينا عن لبس المعصفر.
(3) ومن حيث نوعه، فنهينا عن لبس النجس، والمغصوب.
(4) ومن حيث هيئته، فنهينا عن التشبه بالكفار.
(5) ومن حيث القصد منه، فنهينا عن لبس ثوب الزور والكبر.
وغير ذلك مما هو مشهور في باب اللباس، فيلبس الرجل كيف شاء، وتلبس المرأة كيف شاءت؛ ولكن بالقيود والضوابط الشرعية التي ذكرها العلماء في كتب (اللباس والزينة).
وعباءة الكتف، أفتى بجوازها من هم أجلّ منك وأعرف بأحكام الشريعة، فلست حامل اللواء يا رويبضة، ومع ذلك فالقول بجوازها قول مرجوح، مخالف لصريح النصوص، وعمل نساء المسلمين من قبل، والحكمة المرجوة من وراء الحجاب، وتفصيل القول في ذلك يطول، ولكن المراد: أن شغبك على هيئة كبار العلماء، واتهامهم بالخلط بين التقاليد (العادية) والأمور (الشرعية) وذكرك لهذه المسألة، كلّ هذا يدل على فساد طويةٍ، خرج عبر لسان جهلٍ، وإذا تلاقح الجهل والهوى ولدا العجائب، والله المستعان.
******
ثم سرد المفتون المنفوخ بعض المسائل التي توهم أنه السابق في ميدانها، والفائز من فرسانها، وقد قال بها من بني جنسه الكثير، فذكر:
(1) مسألة الاختلاط، وأن منه الجائز ومنه الممنوع! وقال المجنون: (ولا أعلم طرحًا شرعيا سابقا لذلك الطرح فَصَّلَ في شأنِ الاختلاط ذلك التفصيل) وهذا يكفي لنقض قوله، وهو حداثة تفصيله، إذ لم يطرح هذا التفصيل من قبل! فمن أي كتاب أو سنة أو أثر عن صاحب أو تابعي جاء به؟!
ومع ذلك؛ فعموم النصوص الشرعية، والمقاصد الحكمية: ترشد إلى المنع من الاختلاط بعيداً عن سفسطته وسخافته، وليس المجال للكلام عن ذلك، وبعض ما تقدم يغني في هذا الباب.
ومن مزيد فتنته بنفسه دعواه أنه فصَّل القول فيه في (الماضي) وتبعه على قوله جموعٌ في (الحاضر) ولا أدري أي ماضٍ وحاضرٍ له وهو قبل سنوات قلائل لم يكن في زمرة أهل العلم شيئاً مذكورا؟!
(2) وتكلم عن قضية الطائفية! ونادى (بصوت مرتفع) كما يقول؛ إلى التقارب مع الشيعة، وسعد سعادة عارمة بصدور (تقرير لجنة حقوق الإنسان السعودية يطالب بإعطاء الشيعة حقوقهم، فأرجو أن لا تستمر الممانعة).
وكأنها وافقت قوله! والقول قد قيل من قبل ولم يكن شيئاً مذكوراً، وهو قول مرفوض منقوض غير مقبول لا شرعاً ولا عقلاً.
بل القول به ضربٌ من الجنون، بل من المجون، وإلا فيا زير الجهالة ليست (الرافضة) هي الطائفة الوحيدة التي تبحث عن حقوقها.
فكلّ طائفة منحرفة عن السبيل تنادي بحقوقها، وتتواصى على ذلك كأسلافهم الذي قال الله عنهم: (وَانْطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)(ص:6).
واليوم بين ظهرانينا طوائف عدة لو فتح المجال لهم لأفسدوا البلاد والعباد، من الرافضة والجهمية والقبورية والخوارج والليبرالية بل حتى أهل الشذوذ الجنسي وعبدة الفروج والشيطان! فهل تنادي بحقوقهم يا مخذول؟!
إن الدين ليس دين أحدٍ من الناس، فالدين دين الله تعالى، ويجب أن يكون لله، وما سواه وجب علينا شرعاً نبذه والحذر منه ومن أهله، كما قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(الجاثية:18) ، وأوجب علينا البراءة منهم ومما يدعون من دون الله، وإعلان الكفر بهم، فقال: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ)(الممتحنة:4) ، ونفى الله الإيمان عن الذين يوادون من حاد الله ورسوله، فقال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ)(المجادلة:22).
فكيف بمودة من عَبَدَ المزارات وأئمة أهل البيت؟
وطَعَن في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وطَعَن في نقلة الوحي، وأمناء النبي صلى الله عليه وسلم على دينه وخبره؟
سبحان الله العظيم ما أشد وطأة الانحراف على القوم حتى شرق بهم الدين، وانحرفوا عن السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
(3) ثم تكلم عن التكفير؛ وألصقه بدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، وهي من أبعد الوجهات الدينية عن باب التكفير، ولئن ذكر الإمام محمد بن عبدالوهاب عشر نواقض يُنقض بها الدين، فقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "الإعلام" مئات النواقض، وكذلك البدر الرشيد الحنفي، والقاسم بن صلاح الدين، وأبي المعالي مسعود الحنفي وغيرهم، فما بالك يا عوني ودعوة الإمام حتى تلصق بها تهمة التكفير؟
وقد ذكرتُ زيف ما ذكره العوني في مقالي المذكور آنفاً فليراجع.
******
ثم ختم العوني كلامه بتخلله بلسان التعالي، وأنه ذو صلاحية للصدع بالحق أمام العلماء! وكأن العلماء ظلمة أو فساقٌ يضطهدون الأمة، ويكبتون الحق! وعلى نفسها جنت الرويبضة، ولا تزال في زمرة أهل العلم نكرة لا تعرّف، ومنكر لا يُعرف، ومقالان أو كتابان استأسد بهما العوني! سيعودان عليك بالوبال من حيث لا يشعر، وما حال آحاد العلماء عندما سكتوا عن شغبك البرغوثي إلا كما قال الشاعر:
وما كلّ كلبٍ نابح يستفزني        ولا كلما ظن الذباب أراع
وعن نفسي المقصرة في هذا المقال: فأنا لا أعنيك بهذا الكلام، وإنما أعني من له حظٌ من التأمل والتفكر ليتأمل كيف هي سنة الله في أمثالك، وما يحدث به من تغيرات عبر الليالي والأيام، فيعرف ما كان ينكر، وينكر ما كان يعرف، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء:227) ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
عضو الدعوة والإرشاد بوزارة الشؤون الإسلامية
عضو الجمعية العلمية السعودية لخدمة السنة وعلومها
الثلاثاء 1 ذو القعدة 1430هـ


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني