من المختارات لكم (46): الآثار النبوية .. أنواعها وأحكامها والرد على المتنطعين

الآثار النبوية
أنواعها وأحكامها .... والرد على المتنطعين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد وقفتُ على كلام من لا يُعرف بعلمٍ ولا تحقيق فيه التباكي على (الآثار) التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أزيلت!
ولو كان هذا التباكي مجرداً عن (الإنكار) و(الجزم بمنع الإزالة) لكان له ولجنسه العذر بعظم ما يرد على قلوب المحبين حين زوال ما يبقى من ذكريات من يحبون، وليس من البشر أحدٌ أحب في قلوب المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام رضي الله عنهم، وهذا أمرٌ مجبول عليه الجنس البشري كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ولكن التباكي من هذا الجاهل تجاوز إلى مطلق الإنكار واتخاذه غرضا للنيل من ولاة الأمر، وتجاوز الأمر إلى الاتهام في النيات بطلب الأطماع الدنيوية، وغيرهم جاوز إلى الاتهام بطمس المعالم النبوية لهدم الدين وإزالته!
وهذا كله زيف وتخريف، وقد أوعب العلماء المحققون الكلام في هذا الباب، وإنما أريد في هذا المقام الاختصار مع التقسيم الذي أرجو أن يدرك به الحكم الشرعي فأقول:
ليعلم أن (الآثار) على أضرب وأنواع، ولكل نوع حكمه ومحله في الشرع:
النوع الأول: الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
مما ينقل من سنته القولية والفعلية والأخلاقية والتقريرية والتركية أيضاً.
فهذه الآثار هي دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به عن ربه عز وجل، وهي شرائع الإسلام وأحكامه التي أمرنا بطاعته فيها في أكثر من آية من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132] وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59] وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [المائدة: 92] ونحو ذلك.
وقد أمرنا الله تعالى بتعظيم هذه الآثار والشعائر، والعمل بها، كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7].
وشرع لنا التأسي به صلى الله عليه وسلم في كلِّ ما قال وفعل ما لم يكن من خصائصه تأسياً يحقق الامتثال أو الاتباع في مطلق الأعمال والأحوال، لقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
والمراد بتأسي الامتثال: ما اندرج تحت الخطاب التكليفي أمراً أو نهياً أو إباحة، أو رتّب عليه الثواب.
أما التأسي في مطلق الأعمال والأحوال، فكل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعلٍ ولو لم يرد الدليل الخاص به، أو رتب عليه ثواب، أو على تركه عقاب، ولم يكن من خصائصه الرسالية فإن الاقتداء به فيها من السنن المستحبة، فهو أسوة حسنة عليه الصلاة والسلام.
وهذا النوع هو الأعظم، وهو المطلوب من المكلفين، وهو المحقق للعبودية لله تعالى، والاستسلام له، وطاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه.
وهذا النوع الآثار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك به، وذم المعرضين عنها، وأثنى على من نشرها بين الناس ودعا له، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نضَّر الله امرءاً سمع منَّا شيئاً، فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوْعَى من سامع» أخرجه الترمذي.
وإحياء هذه الآثار ونشرها وتجديدها من أفضل القرب، وأعظم الطاعات، فروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».
وله عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه أبدع بي فاحملني، فقال: «ما عندي» فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن دل على خير فله مثل أجر فاعله».
وعن عمرو بن عوفٍ - رضي اللَّه عنه - مرفوعا: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من الناس ما ينقص من أجور الناس شيئا، ومن ابتدع بدعة لا يرضاها اللَّه ورسوله فإن عليه مثل إثم من عمل بها من الناس لا ينقص من آثام الناس شيئا» رواه الترمِذِي وحسنه وابن ماجه - وهذا لفظه -.
وفي الترمذي عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» وحسنه بعض أهل العلم.
وأماناً لنا من غياب هذه الآثار واندراسها بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يبعث من يجددها حينذاك كما روى أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رسولَ الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائةٍ سنةٍ من يُجَدِّد لها دينَها».
فيا ليت من تباكي وحزن إنما هو على اندراس هذا النوع من الآثار كما حصل من بعض الصحابة والتابعين، مثل ما روى البخاري في كتاب الصلاة عن أم الدرداء؛ قالت: دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له: ما لك؟ فقال: «والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً».
وروى مالك في " الموطإ " عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: «ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة»يعني: الصحابة.
وقال الزهري: «دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت».
وفي لفظ آخر أنه قال: «ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد أنكرته اليوم».
وقال الحسن: سأل أبا الدرداء رجلٌ، فقال: رحمك الله! لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؛ هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه، ثم قال: «وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟ !».
وقال المبارك بن فَضَالَةَ: صلى الحسن الجمعة، ثم جلس فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟! فقال: «تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم؛ ما عرف شيئاً مما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أنتم اليوم عليه؛ إلا قِبْلَتَكُمْ هذه؟ !».
وروى البخاري عن أنس قال: «إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات».
فمثل هذا هو الذي كان يجب على أولئك المتباكين البكاء عليه، والجد والاجتهاد في إحياء ما غاب واندرس منه، والجلوس لتعليم الناس الخير، ونشر السنة، وقمع البدعة.
النوع الثاني: الآثار المكانية.
وهي على ثلاثة أضرب:
الأولى: ما تعلق بها عبادة وقربة لله تعالى.
كالمساجد الثلاثة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجدَ: مسجدِ الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي» متفق عليه.
وفضيلتها في عظم أجر (العبادة) فيها، وتعظيمها يكون بما جاء في الشرع من تحريم الصيد، والقتال، وقطع الشجر في الحرمين الشريفين.
ومثلها المشاعر المقدسة، كعرفة ومنى ومزدلفة، والروضة النبوية الشريفة، ومسجد قباء، ووادي العقيق الذي أمر الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، ومقام إبراهيم والصلاة خلفه، وجبلي الصفا والمروة، والملتزم، ونحو ذلك.
ولا يُتجاوز في ذلك المشروع من الصلاة والدعاء عندها، فمع ما لتلك البقاع من فضيلة فلا يعني ذلك مشروعية التبرك والتمسح بما فيها من أشجار وأحجار وبناء: كغار حراء، وصخرة بيت المقدس وجبل أحد ونحو ذلك، فكلها وإن كانت في بقاع مشرفة مباركة لكن طلب البركة منها، والتمسح بها، والعكوف عندها مما لا يجوز!
ومثل هذا النوع من (الآثار) لا تجوز إزالتها ولا العبث بها، ولا إحالتها إحالة تفوّت الحق الواجب فيها، والمشروع عندها.
الضرب الثاني: ما لا يتعلق بها فضيلة للبقعة والعبادة فيها من صلاة ودعاء ونحوه.
فلا يتجاوز فيه ما جاء عن النبي صلى الله وسلم وهو من مطلق الاقتداء كما تقدم، من غير تجاوز ولا غلو كبناء مسجد، وقصد التعبد في تلك البقعة، وتفضيلها على غيرها، فهذا مما يجب أن ينكر ويزال، فعن المعرور بن سويد قال: كنت مع عمر بين مكة والمدينة، فصلى بنا الفجر فقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} ، ثمَّ رأى قوماً ينزلون فيُصلُّون في مسجد فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلَّى فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيَعا، مَن مرَّ بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليُصلِّ، وإلاَّ فليمض» رواه عبد الرزاق (2/118 ـ 119) وابن أبي شيبة (2/376 ـ 377) بإسناد صحيح.
فإن قيل:
وما تصنع بما رواه البخاري عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين تحب أن أصلي؟» فأشار إلى مكان من البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقال:
بأن هذا من المشروع كما تقدم بما يأتي عَرضاً من غير أن يُتخذ مسجداً وموطناً للتعظيم، ولهذا لم يجعل مصلاه في بيت ابن أم مكتوم مسجداً بعد ذلك لا في عصر الصحابة ولا من بعده، ولو علمه جهال زماننا لبنوا فوقه مسجداً وتزاحموا عليه.
ومثل هذا مواطن صلاة نبينا صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء لا يشرع السفر إليها وقصدها للصلاة فيها، ويدل على ذلك ما رواه مالك في الموطأ وغيره عن أَبُي هُرَيْرَةَ، قال: لَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيَّ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الطُّورِ. فَقَالَ: لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ، مَا خَرَجْتَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ إِلَى مَسْجِدِي هذَا، أَوْ إِلَى مَسْجِدِ إِيلْيَاءَ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ، يَشُكُّ.
الضرب الثالث: ما كان له فضيلة في ذاته بين الأماكن، من غير مشروعية عبادة عنده.
ومن ذلك فضل جبل أحد ونحوه، فإن هذا يعظم بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم له كان بمحبته لقوله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبل يحبُّنا ونُحبُّه» متفق عليه.
ومثلها ما روي في فضيلة بعض الجبال والبقاع والأنهار فما صح من أحاديثها لا تجوز إزالتها وإن لم يترتب عليها عبادة مستقلة حفظاً لفضلها ومكانتها، فإن تجاوز الناس فيها وغلو فالواجب على السلطان أن يحجر الناس عن ذلك ويردعهم، ولا يجوز إزالتها لما لها من فضيلة شرعية.
النوع الثالث: الآثار المبنية.
وليس في الوجود بناءٌ يترتب عليه فضيلة، ولا يجوز إزالته ولا تغييره عن حده إلا بيت الله الحرام، وحدوده معروفة هي ما هي عليه من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم سوى ما استثني من الحجر.
أما بقية الأبنية، فعلى ضربين:
الضرب الأول: ما يجوز توسعته والزيادة فيه وتغيير عمرانه بحسب المصلحة من غير إزالة له بالكلية ولا إخراج ما هو منه عنه مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المساجد الثلاثة التي بارك الله حولها: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس، فيجوز التصرف في بنائها وتحسين عمرانها، مع بقاء أصل مكانها الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء من فضائل الصلاة والعبادة فيها، وما زاد عليها متصلاً بها فهو تبعٌ لها في الفضيلة في قوله جماهير الفقهاء.
والضرب الثاني: فكل ما كان على عهد النبي صلى الله عليه من بيوت وآبار ونخيل، كحجرات زوجاته -عدا حجرة عائشة رضي الله عنها لقبر نبينا الشريف وصاحبيه- وبقايا بيوت الصحابة ومزارعهم وآبارهم، كل ذلك مما ليس فيه فضيلة بذاتها، فلا ذم شرعي في زوالها، ولا يجوز إنكار ذلك شرعاً.
أما الحزن على إزالتها؛ فهو من عواطف القلوب ورقتها، ولا تثريب على من بلغ به الحدّ إلى ذلك كما روى الواقدي في "سيره" عن عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو بين القبر والمنبر: أدركت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد يقرأ، فأمر بإدخالها في المسجد، فما رأيت يومًا كان أكثر من ذلك اليوم باكيًا. فسمعت سعيد بن المسيب يقول: «والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناس من المدينة ويقدم قادم من الأفق، فيرى ما اكتن به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر» .
قال: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن له حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبوابها مسوح الشعر، ذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع وعظم الذراع. فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني وأنا في المسجد فيه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسم وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة ابن سهل بن حنيف وخارجة بن زيد وإنهم يبكون حتى أخضل الدمع لحاهم، وقال يومئذ أبو أمامة: «ليتها تُركت حتى يقصر الناس عن البناء، ويرى الناس ما رضي الله لنبيه وخزائن الدنيا بيده».
وتأمل كيف عدم جزمهم بمنع الزوال، وإنما هو مجرد الأمل والتمني، فلا يجوز أن يتجاوز هذا الحزن إلى (الإنكار) وإلحاق الذم بمن فعله! فكيف بمن يبكى اليوم بل ويرفض بناء من جاء بعدهم بقرون كتباكي من تباكى على العمران العثماني حول بيت الله الحرام؟!
وليتأمل العاقل اللبيب مقاصد السلف من إبقاء تلك المباني على فرض صحة الأخبار في ذلك- فإن مرادهم لم يكن لكي تتخذ (مزاراً) ولا أن (يتبرك بها) وإنما ليخرجوا بذلك بما يفيدهم في دينهم من:
الزهد في الدنيا، وما كان أشرف الناس وأغناهم بالله عليه من الكفاف في العيش، والبعد عن الترف والاشتغال بالدنيا!
وكثيرٌ من المتباكين اليوم إنما يريدون تلك (الأبنية) و(البساتين) و(الآبار) مزارات ومواطن تبرك وتعظيم لها!
النوع الرابع: الآثار الشخصية.
مما باشر جسد النبي صلى الله عليه وسلم من طعامٍ وشرابٍ ولباس، وما سقطَ من شعره وريقه وعرقه، فكل ذلك مما يشرع التبرك به في حياته وبعد مماته مما بقي منه، كما ثبت ذلك في الأخبار الثابتة الصحيحة، ولا يوجد اليوم من ذلك شيءٌ، وما يزعم من بقايا لباسه وسلاحه وشعره في بعض البلدان إنما هو مجرد دعوى لا يثبتها دليل، ويخشى أن يكون القصد منها دنيوي لكسب الأموال لا غير.
ومن جنس هذا ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باشره بيده أو بجسده الطاهر فلا حرج في استلامه كما استلمه النبي صلى الله عليه وسلم رجاء البركة، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة في استلام رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن ابن قسيط والعتبي قالا: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعو، رواه ابن سعد في "الطبقات" (1/254) وروى قبلها عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، ثم وضعها على وجهه.
ومنبره صلى الله عليه وسلم لم يعد موجوداً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة ، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رُخِّص فيه ، لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده» "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص:368). 
 ولم يبقَ مما باشر جسد النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم شيء غير الحجر الأسود، أما الركن اليماني فهو من بناء الكعبة الذي يتصرف الخلفاء والسلاطين في تغييره وتجديد بنائه، واستلامه بيده لمطلق الاقتداء في النسك، أما الحجر الأسود فاستلامه لثلاثة أسباب:
أولها: مطلق الاقتداء لأنه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في نسكه.
والثاني: مس ما مسَّه النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنِّي لأعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ ما تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، ولولا أنِّي رأَيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ».
والثالث: طلب الأجر باستلامه، لما روى الترمذي وغيره عن عبيد بن عمير -رحمه الله- «أن ابْنَ عمر كان يُزاحِمُ على الركنين، فقلت: يا أبا عبْد الرحْمَنِ، إنك تُزاحِمُ على الركنينِ زِحَاماً ما رأيت أحَداً من أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُزاحمُهُ؟ فقال: إن أفْعَلْ، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ مَسْحَهما كَفَّارَةٌ لِلخَطايا».
وما ثبت من البقاع أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بها أو جلس فيها فلا يجوز أن تتخذ مصلى وموطن عبادة كما تقدم من إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكما روى ابن سعد في "الطبقات" (2/ 100) قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء. أخبرنا عبد الله بن عون عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت.
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر كما في "فتح الباري" (7/448) إلى نافع، وهو وإن لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا إنه مما يستأنس به في هذا الباب ويحتمل ولا نكارة فيه، بل هو من مظان الاتصال لارتباط نافع بالبيت العمري.
وزوال الشجرة كانت محل فرح لخيار الصحابة ولم يحزنوا على ذلك ويتباكوا كما روى البخاري في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: «رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله».
قال الحافظ النووي في "شرحه على مسلم" (13/ 5): «قال العلماء سبب خفائها أن لا يُفْتَتَنَ النَّاسُ بِهَا لِمَا جَرَى تَحْتَهَا مِنَ الْخَيْرِ وَنُزُولِ الرِّضْوَانِ وَالسَّكِينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَوْ بَقِيَتْ ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَخِيفَ تَعْظِيمُ الْأَعْرَابِ وَالْجُهَّالِ إِيَّاهَا وَعِبَادَتُهُمْ لَهَا فَكَانَ خَفَاؤُهَا رَحْمَةً مِنَ الله تعالى».
قال الحافظ ابن حجر فتح الباري لابن حجر (6/ 118): «الحكمة في ذلك أي اختفاؤها- وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها وإلى ذلك أشار بن عمر بقوله كانت رحمة من الله أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى ويحتمل أن يكون معنى قوله رحمة من الله أي كانت الشجرة موضع رحمة الله ومحل رضوانه لنزول الرضا عن المؤمنين».
فتبين مما تقدم:
[1] ما يشرع إبقاؤه وتعظيمه وما يجوز التبرك به.
[2] وما يمنع من تعظيمه والتبرك به.
[3] وما يجب رعايته والحفاظ عليه.
[4] وما لا يجب بل ولا يستحب.
[5] وما تجب إزالته عند الفتنة به.
كل ذلك تقدم في التقسيمات السابقة، ذكرتها بالإيجاز والاختصار، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الاثنين 27 جمادى الأولى 1434
الطائف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني