من المختارات لكم (54): دلائل التوحيد في الحج

دلائل التوحيد في الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد :
فإن الله تعالى خلق الخلق لغاية عظيمة ، ولحكمة بالغة ، خلقهم ليعبدوه ، وبالعبادة يفردوه ، فلا رب سواه ، ولا معبود بالحق إلا هو سبحانه وتعالى جلّ في علاه ، كما قال الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56) ، أي يوحدوني بالتعبد والتذلل والخضوع ، والتوبة والإنابة والخوف والرجاء والخشوع ، ولهذا خلقهم – اللهُ - أجمعين ، وبعث من أجل تحقيق ذلك جميعَ المرسلين ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36) ، وقال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25) ، وقال جل وعلا : ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأحقاف:21) ، وقال تعالى ذكره : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45) .
كلّ ذلك من أجل تحقيق كلمة واحدة عليها قامت السموات والأرض .
ومن أجلها خلق الله الجن والإنس .
وبسببها قامت سوق الجنة والنار .
ولإعلائها أرسل جميع المرسلين عليهم صلوات وسلام رب العالمين ، كما قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) .
ولنصرتها شرع الله الجهاد والجلاد وفتح البلاد ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39) .
ولتأييدها وبيانها أُنزلت الكتب كما قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران:3-4) .
فأنزل اللهُ القرآنَ والتوراةَ والإنجيلَ من قبلُ هدى للناس : أي دِلالةً إلى توحيد الله وعبادته والتصديقِ بالنبيين عليهم الصلاة والسلام .
والله تعالى يقول : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (هود:1-2) .
كلّ ذلك من أجل كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، الكلمة الطيبة ، والعروة الوثقى ، والقول السديد ، والقول الفصل .
فلا عجب أن تزن السمواتِ والأرضين ، وأن تكون خيرَ ما تُكلِّم به على لسان الأولين والآخرين .
ولا عجب أن تكون أصدقَ كلمةٍ في الوجود ، وأفضل ما يُذكر به اللهُ الودود ، وقد صحّ عن النبي r : ( أفضل الذكر : لا إله إلا الله ) .
وجاء في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان أن موسى عليه السلام قال يا ربّ علمني شيئاً أدعوك وأذكرك به ! ، فقال : يا موسى ، قل : لا إله إلا الله ، فقال موسى عليه السلام : يا رب كل عبادك يقولون هذا ، وفي رواية عند ابن حبان : أريد دعاء تخصني به ، فقال الله تعالى : يا موسى ، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) .
فهذه الغاية العظيمة ، والقصد الأسمى ، والكلمة العظمى التي من أجلها خلق الله الخلائق .
والعبد المؤمن : متصل بالله تعالى في جميع حركاته وسكناته ، وسائر أحيانه وأوقاته ، وفي خلوته وجلواته ، وهذا الاتصال هو حقيقة التوحيد لله تعالى .
وبهذا تكون الحياة كلها لله ، وهذا سبيل سادات الموحدين ، ورسل رب العالمين ، كما قال تعالى لسيد المرسلين وإمام الموحدين وخليل رب العالمين نبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة والتسليم : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163) .
فالصلاة : توحيدٌ لله تعالى بالتكبير والتعظيم .
وبالقنوت والخضوع بين يديه .
والإقبال إليه .
والركوعِ تعظيماً له وإجلالا .
والسجودِ خشية ورغبة فيما عنده تعالى .
والصيام: حبس النفس عن الشهوات ، من المطاعم والمشارب طاعة لرب البريات .
ظمأ وجوع .
سهر وقيام والناس هجوع .
قاموا تعظيماً لله ، مخبتة قلوبهم إليه ، منكسرة رؤوسهم بين يديه ، قد أسهروا الأبدان والعيون ، أثنى عليهم الله بقوله : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16) .
والزكاة : بذل المال المحبوب إلى النفوس طاعة وقربة إلى الله ، لأن المال مال الله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ولسان حالهم يقول : يا رب شكرانك لا كفرانك ، ونرجو رحمة منك ومغفرة ورضوانك ، أنعمت علينا بالمال الوفير ، فننعم بنعمتك على كل مسكين وفقير ، مقابلة للإحسان بالإحسان ، وللنعمة بالشكر والعرفان .
وكذلك حج بيت الله الحرام ، ففيه تتجلى العديد من دلائل التوحيد ، وهو موضوع هذه المحاضرة ، فكل هذه الشعيرة من أولها إلى آخرها توحيد الله تعالى بسائر أقوالها وأفعالها ومقاصدها ، والبقاع التي تقصد العبادة فيها ، كلها تدل على حقيقة التوحيد ، وتنادي إلى مصداقية التجريد ، فما رفعت قواعد البيت إلا تجريداً للتوحيد وتحقيقاً له كما قال تعالى : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج:26) .
فما أنشئ البيت ، ولا رفعت دعائمُه إلا إقامة للتوحيد ، وبراءة من الشرك ، وكأن الله تعالى يقول :
إذا قصد المشركون آلهتهم .
وحجوا إليها .
وقدموا القرابين في ساحاتها .
فهذا بيتي ، تقربوا لي فيه بالطواف والقيام والركوع والسجود ، ولا تشركوا بي شيئاً .
فكان قصده ، وشد الرحال إليه ، وتعظيم شعائره من أفضل القرب والأعمال ، ولهذا رتب الله عليه الفضل العظيم ، والأجر الكبير ، فقد صح عن النبي r أنه قال : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ، وقال النبي r : «تَابِعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما يَنْفِيان الذُّنُوبَ والفَقْرَ ، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة ، ولَيسَ لِحجَّة مبرورة ثواب إلا الجنة ، وما من مؤمن يَظَلُّ يومه محرما إلا غابت الشمس بذنوبه » أخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح .
وقد اجتمع في حج بيت الله كل أنواع التوحيد :
توحيد الله تعالى ، وتوحيد الاتباع للنبي r ، وتوحيد صفوف المسلمين وقلوبهم .
أول دلائل ذلك :
` الاستجابة إلى أمر الله تعالى وأذانه ، فقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيمَ عليه السلام بعدما رفع قواعد البيت العتيق أن ينادي في الناس بالحج ، كما قال تعالى : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج:26-27) ، فأقامه للتوحيد ، وطهره من الشرك ، وأذّن في الناس بالحج إليه تعظيماً وعبادة لله تعالى .
ذُكر عن ابن عباس ومجاهد وغير واحدٍ من السلف أن إبراهيم عليه السلام قال : يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ, فقام على مقامه, وقيل على الحِجر, وقيل على الصفا, وقيل على أبي قبيس, وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه, فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاء الأرض, وأسمع من في الأرحام والأصلاب, وأجابه كلُّ شيء سمعه من حجر ومدر وشجر, ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة – كلهم أجابوه وقالوا - لبيك اللهم لبيك ) .
وهذا من عظيم دلائل التوحيد في سرعة الاستجابة لله تعالى ، مقدما لذلك على رغبة النفس ، ومحبة المحبوب من مالٍ وزوجٍ و ولد و وطن ، فيخرج إلى بيت الله تعالى تعظيماً وإجلالا كما خرج إليه إبراهيم عليه السلام ، ويفارق الأهل والوطن والمال طاعة لله واستجابة لأمره ، ويؤثر محبة الله على محبة كلّ محبوب ، وكأن الله يناديه إليه : تعال إلى ضيافتي يا عبدي ، وتعال إلى بيتي ، والعبد يجيب ربه بألطف جواب ، وأجمل عبارة ويقول : لبيك اللهم لبيك .
فهم وفد الله تعالى وضيوفُه وقد روى النسائي في " سننه " عن النبي r أنه قال : ( وفد الله ثلاثة :  الغازي والحاج والمعتمر ) .
وكلهم قد خرجوا لله طاعة واستجابة يرجون رحمته ويخافون عذابه.
وهكذا يكون الموحد في كلّ ما يأمر الله تعالى ورسوله r به من الطاعات ، وما ينهى الله عنه ورسوله r من المحرمات ، وبذلك تكون الحياة الطيبة ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) .
[ 2 ] ومن دلائل التوحيد في حج بيت الله تعالى : إتجاه القصد لله سبحانه وحده لا شريك له ، والأعمال بالنيات ، والله تعالى يقول : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:3)، ويقول عز وجل : ( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (غافر:65) ، وفي الإخلاص الخلاص وصدق القصد : طاعةً لله تعالى ، ورغبةً فيما عنده من الثواب والنوال ، فيحتسب في طاعة الله تعالى من أول خروجه إلى الحج إلى رجوعه إلى بلده – يحتسب – كلّ ما يقاسيه من تعبٍ ونصبٍ ، وجوعٍ وظمأ ، وشدةٍ وضنك ، وضيقٍ ومرضٍ ، وعطبِ دابة ، وضياع مال ، كل ذلك يحتسب أجره عند الله ، ويبتغي عِوضه من الله ، وقد صح عن النبي r أنه قال : ( ما يُصيب المؤمنَ من وَصَب ولا نَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن ، حتى الهم يَهُمُّه ، إلا كَفَّر الله به سيئاته ) متفق عليه .
[ 3 ] ومن دلائل التوحيد في هذه الشعيرة العظيمة : مخالفة دين المشركين ، وسبيل المجرمين ، إذا تفاخر عباد الأوثان بحج المشاهد والقبور ، والطواف حولها ورفع الحاجات والأمور ، والتقرب إليها بالقرابين والنذور ، فلنا ربٌ لا إله إلا إياه ، ولا لنا معبود سواه ، ويقول قائلنا ما قال أبينا إبراهيم عليه السلام : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79) ، ونقول ما أمر الله نبينا محمد r أنه يقوله : ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الأنعام:56) ، ونقول لعباد القبور ، وحجاج المشاهد والأضرحة : (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:75-82) .
فزد شرفاً يا سليم العقيدة ، وزد فرحاً يا صاحب التوحيد : أن غيرك يتكبد الأسفار ، ويقطع القفار ، ويشد الرحال ، وتتقطع منه الأوصال : قصداً إلى وثنٍ يُعبد من دون الله ، وحجاً إلى مشهدٍ من مشاهد الأولياء ، يطوف بها ، ويتعلق بأركانها ، ويتقرب إليها بالنذور والقرابين ، يضاهون الله بخلقه ، ويعدلون قبور الموتى ببيت الحي الذي لا يموت ، ويسفكون الدماء عند عتبات الأضرحة ، وأنت بفضلٍ من الله ومنة : هداك للتوحيد ، وشرفك بعبادة رب العبيد عن عبادة العبيد ، فلا رب لك إلا الله ، رغبتك إليه ، وانكسارك بين يديه ، لا تخاف إلا منه ، ولا ترجو غيره ، وهذا هو الفضل العظيم ، فافرح بذلك وحق لك أن تفرح : ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58) .
[ 4 ] ومن دلائل التوحيد لله تعالى في هذه الشعيرة العظيمة : اللهج بالتلبية الصادقة الطاهرة إخلاصاً وتوحيداً لله تعالى : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك.
لبيك اللهم : إجابة بعد إجابة طاعة لله تعالى واستجابة لأمره .
لبيك اللهم لا شريك لك : من سائر الحلق الجمعين ، لا ملكٌ مقرّب ولا نبيٌ مرسل ، فلا نعبد إلا أنت ، ولا نقصد إلا وجهك ، ولم نفارق الأرض والأهل والمال والعيال إلا طاعة لأمرك ، ورغبة فيما عندك .
إن الحمد والنعمة لك ، فأنت سبحانك أهل الحمد والثناء لأن النعمة نعمتك ، والملك ملكُك ، لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ، وهذه إنّ التوكيدية : أي نؤكد أن الحمد وهو كمال الثناء لك سبحانك ، وكذلك الملك لك سبحانك دون سواك ، فكل ما في السموات والأرض لا يخرج عن ملكك وسلطانك ، ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:189) وفي هذين التوكيدين الاعتراف لله تعالى بالتوحيدين : توحيد الأولهية ، وتوحيد الربوبية ، فالاعتراف باستحقاقية الله تعالى للحمد الكامل والثناء التام من توحيد الأولوهية بفعلٍ من أفعالنا ، والاعتراف بالإنعام والملك لله تعالى من توحيد الربوبية بأفعاله وهذا ما جاء في أول سورة الفاتحة الكافية الشافية أم القرآن من قول الله تعالى ذكره : ( الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين) .
[ 5 ] ومن دلائل التوحيد في هذه الشعيرة المباركة : حرمة النفس عن الترفه بالملذات وسائر المشغلات غير طاعة الله تعالى ، فحرّم الصيد على المحرم ، ومن ( اتبع الصيد غفل ) ، وحرم عليه مسّ الطيب ، وحلق الشعر ، والجماع ، بل وعقد النكاح ، ولبس الزينة من اللباس المخيط ، كلّ ذلك بعداً عن الاشتغال عن الدعاء والتعبد لله تعالى حتى يُتِمّ نسكَه ويَقْضي تفثَه ، ولعل من ذلك بعد المواقيت عن البيت الحرام ، ليقضي الحاج تلك المسافة الطويلة : المدة الطويلة مشتغلاً بالتلبية والتسبيح والذكر والدعاء ، فتصفّى النفس وتهذب ، وتهيأ لزيارة بيت الكريم الودود ، وتستعد لكرامة رب العالمين ، وخالق الخلق أجمعين .
[ 6 ] ومن دلائل التوحيد في حج بيت الله العتيق : الطواف ببيت الله تعالى ، واستلام أركانه ، قربة وطاعة لله تعالى ، وهو حجر على حجر لا يضر ولا ينفع ، ولا يدعى من دون الله تعالى ولا يرجى ، وإنما النافع الضار ، والمعطي المانع ، هو رب البيت وصاحبه ، من أذن أن يذكر ويسبح له فيه بالغدو والآصال .
روى الفاكهي في " تاريخ مكة " إن عائشة رضي الله عنها سمعت امرأة تقول : والكعبة ، فقالت عائشة رضي الله عنها : « أرأيتك هيه » .
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلا يحلف بالكعبة ، فضربه وتكلم ، ثم قال : « الكعبة تطعمك ؟ الكعبة تسقيك ؟ » .
فمع عظمة هذا البيت وجلالته إلا أنه ليس هو الرب الذي ندعوه ونرجوه، ونعبده ونخافه ، وإنما نعبد رب هذا البيت ، الذي آمّننا من خوف وأطعمنا من جوع .
وهذا البيت جعله الله تعالى طهرة المذنبين فمن طاف به تحاتت عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر .
جعله الله تعالى : آماناً للخائفين فمن دخله كان آمناً : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (البقرة:125) ، وقال تعالى : ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) (آل عمران:97) ، وقال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت:67) .
فهو محل الأمان .
القتال فيه حرام ولم يُحل إلا لنبينا ساعة من نهار .
القتل فيه إجرام ، وعلى من أرد فيه بإلحاد الذل والصغار .
أمان لكل الكائنات : الإنسان والشجر والحيوان .
لا ينفر صيده ، ولا يعضد شجره ، ونفس المؤمن أعلى وأجل .
وكيف لا يأمن من دخل بيت ملك السموات والأرضين ؟! .
وكيف لا يأمن من أناخت مطاياه بباب أكرم الأكرمين ؟! .
وجعله الله قياماً للناس : كما قال تعالى : ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ) (المائدة:97) أي بها قيام دينهم ، فبشرى الموحدين بقيام دينهم ما قام هذا البيت وارتفع ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فمهما تطاول المتنطعون ، وشكك المشككون ، وأرجفوا بضياع الدين ، وفساد الملة : الدين باقٍ خالدٌ ما بقي هذا البيت .
[ 7 ] ومن دلائل التوحيد في حج بيت الله تعالى : صدق الاتباع للنبي r في جميع مناسك الحج والعمرة ، بأعمال قد لا يظهر لقاصر علم المخلوقين الحكمة منها ، ولكنها تؤكد تمام العبودية لله تعالى ، وصدق الاتباع لأمره عز وجل ، فنتبع الرسول r في كلّ ما أمره ربُه عز وجل به ، وهو القائل عليه الصلاة والسلام : ( خذوا عني مناسككم ) ، فنفعل مثل ما فعل طاعة لربنا وخالقنا عز وجل ولرسوله r لأننا عبيد لله تعالى ونشرف بهذه العبودية .
العبودية لله تعالى .
لا عبودية النفس والهوى والشيطان .
ولا عبودية التقليد والعناد والكفران .
فويل للمتنطعين ؟! .
و ويل لأدعياء تحرر العقول وابتكار المصادمات بين المعقول والمنقول .
نعم :
نحن عبيد .
نستجيب لله تعالى في أمره ونهيه ، وليس لنا الخيرة ولا البحث عن الحكم والمقاصد في أمر الله ونهيه ، والله تعالى يقول : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) .
فنطوف ببيت سبعة أشواط لا تنقص ولا تزيد .
ونقبل حجراً ونعلم أنه لا يضر ولا ينفع ولولا أن رسول الله r قبله ما قبلناه ، كما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ونسعى بين الصفا والمروة ذهاباً وإياباً في سبعة أشواط من جبل إلى جبل لا نبحث عن مفقود ، ولا نسأل عن منشود ، غير أننا نستجيب لأمر الواحد المعبود الذي قال : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) .
فأين أهل التشكيك في ثوابت العقيدة ؟ .
وأين أدعى الإسلام رسماً لا حقيقة ؟! .
أين أدعياء العقول التي تدعي المدنية والحضارة حتى جعلوا عقولهم محتكما لنصوص الشريعة وأحكامها ؟! .
هل يجدون في القيام بهذه الأعمال دافعاً وموجباً غير صدق الاتباع ؟! .
وصدق العبودية والانصياع لأمر الله ورسوله r ؟! .
[ 8 ] أيضاً من دلائل التوحيد في حج بيت الله تعالى : الوقوف في عرفة ، ذلك اليوم العظيم ، الذي مدار الحج عليه حتى قال النبي r : ( الحج عرفة ) .
ففيه يقف الناس كلُهم : شعثاً غبراً ، في ساعات قلائل ، يدعون الله تعالى في ساعة نزول الرحمات من رب الأرض والسموات ، ينزل فيها الله تعالى نزولاً لائقاً بجلاله إلى السماء الدنيا، يباهي بضيوفِه، ويقول لملائكته عليهم السلام: (انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً صاحين جاؤوا من كل فج عميق ولم يروا رحمتي ولم يروا عذابي ) .
قال النبي r : « ما رؤيَ الشيطانُ يوما هو فيه أصْغَرُ ، ولا أدْحَرُ ولا أحْقَرُ ، ولا أغْيَظُ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تَنَزُّل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذُّنوبِ العِظامِ ، إلا ما أُرِيَ يومَ بَدْر ، فإنَّه قَدْ رأى جبريل يَزَعُ الملائكة » أخرجه الإمام مالك في « الموطأ » .
[ 9 ] ومن دلائل التوحيد الوقوف بمزدلفة ، والله تعالى يقول : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة:198) ، فيذكر المسلم ربه عز وجل عند المشعر كما صنع النبي r ، وليُنظر في موجب ذكر الله تعالى ، بأن الله تعالى هدانا للإسلام ، ودلنا على التوحيد ، واصطفانا للإسلام بين العالمين ، وإن كنا لولا ذلك لمن الضالين .
غيرنا يعبد الأحجار ، والأشجار ، والأصنام .
ونحن نعبد الحي القيوم السلام .
فهدايتنا للتوحيد ،لم نهدَ إليها بالدهاء والذكاء ، و لم نستحقها إرثاً من الأجداد والآباء .
فقد كان صناديد قريش أهل ذكاء ودهاء ، وأشرف الناس في الأجداد والآباء وأوتوا علوماً ولم يؤتوا فهوماً ، وأتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء ، وأوتوا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)(الاحقاف: من الآية26) .
فالهداية للإسلام : منة من الله ، وفضل من الحي القيوم .( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)(النحل: من الآية9) .
ولكن اصطفاء من الناس من يؤمن برسالاته ، ويصدق بأنبيائه ، ويتبع الرسل ، ولهذا إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:43) .
وإلا فكم من مدعٍ للذكاء والدهاء ضال مضل منحرف عن دين الله تعالى جعله الله كالأنعام بل أضل ! ، قال الله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146) ، وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (الأنعام:111) ، وقال الله تعالى عمن أعرض عن ذكره والإيمان به : ( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (لأنفال:23) ، فهذا يوجب الشكر والثناء على الله تعالى أن هدانا للإسلام وإن كان لولا ذلك لمن الضالين .
[ 10 ] ومن دلائل التوحيد : رمي الجمار ، وقد قال النبي : « إنما جُعِل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ورميُ الجمار : لإقَامِةِ ذكْرِ اللَّه». رواه الترمذي وأبو داود واللفظ له .
[ 11 ] ومن دلائل التوحيد : النحر في يوم النحر يوم الحج الأكبر ، وما تعبد لله تعالى في ذلك اليوم بأفضل من إهراقة الدم قربة وطاعة لله تعالى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما عمِل آدميّ يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراقه الدماء ، إنها لتأتي يوم القيامة بقُرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدمَ ليقع من الله بمكان قبل أن يقعَ في الأرض ، فَطيبوا بها نفسا » أخرجه الترمذي.
وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- سئل : أيُّ الحج أفضلُ ؟ قال : « العَجُّ والثَّجُّ » .

وروى أبو داود عن ابن أبي أوفي - رضي الله عنه – أنه كان يقول : يومُ النحرِ : يومُ الحجِّ الأكبر ، يُهراقُ فيه الدمُ ، ويوضع فيه الشَّعَرُ ، ويُقْضى فيه التَّفَثُ ، وتَحِلُّ فيه الحُرُمُ.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
8 ذو الحجة 1434هـ

تعليقات

  1. جزاك الله خيراً يا شيخنا الفاضل بدر. وكثر الله من أمثالك.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني