من المختارات لكم (55): حقيقة لا إله إلا الله

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة لطيفة في حقيقة لا إله إلا الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فإن الله تعالى خلق الخلق لغاية عظيمة، وحكمة بالغة، وهو أن يعبد وحده دون سواه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] وهذه هي حقيقة لا إله إلا الله وحده، بأن يُعبد سبحانه وتعالى ولا يشرك معه في عبادته لا ملكٌ مقرّب ولا نبيٌ مرسل، والله تعالى لما دعا عباده إلى هذا التوحيد المطلوب، والذي من أجله خلق خلقه ألزمهم بما هو متقرر في الفطر عندهم من كونه سبحانه وتعالى خالقهم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21] ففي هذه الآية دليل على أن قضية الاعتراف بالربوبية محسومة معلومة عندهم، فقال لهم: اعبدوا ذلك الرب الذي خلقكم، ولو لم يكن الكفار يقرون لله بالربوبية، لكان ثبات الربوبية هو المطلب الأول، وقال لهم: اعلموا أن ربكم الذي خلقكم، ثم يطلب الأمر التالي وهو عبادته! ولكن قضية الربوبية مفروغ منها تثبتها الفطر والدلائل الحسية والعقلية، فألزمهم الله تعالى بما هو متقرر عندهم كي يعبدوه وحده سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد تلك الآية: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] قال قتادة: (أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السموات والأرض، ثم تجعلون له أندادا) رواه ابن جرير.
ويقول تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم: 40] فألزمهم بما يقرون به ولا ينكرونه، وهو متقرر في سابق علمهم بأنه الخالق الرازق والمحيي المميت! وأن من يعبدونه منه دون الله لا يستحق أن يعبد لأنه لا يملك ذلك.
 ولما جاءت الرسل إلى أقوامهم حاججتهم بما يعرفون من خلق الله تعالى ودلائل ربوبيته لتحقيق ذلك التوحيد المطلوب الذي من أجله خلق الله الخلائق.
فهذ إبراهيم عليه السلام يقول لقوم: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 16، 17].
ولم يكن المشركون يعتقدون في أصنامهم الخالقية والرزق حتى يأتي إبراهيم عليه السلام ليثبت لهم أن الله هو (فاعل) ذلك و(خالقه) وإنما أثبت لهم بسابق ما يعلمون بأن آلهتهم لا تستحق أن تعبد من دون الله بما يعرفونه من أن الرزق لا يملكه إلا الله.
وعيسى عليه السلام يقول: (اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة: 72] فهو ربهم قبل أن يعبدوه من قبل! ويعرفون أنه ربهم، ولم يكن ذلك كافياً في تحقيق إسلامهم حتى يعبدوه، وهو طلب عيسى عليه السلام منهم.
والآيات في المعنى كثيرة جداً، فحقيقة (الربوبية) ثابتة لا دافع له، والمطلوب إفراده سبحانه وتعالى بـ(العبادة) وقد قال تعالى عن المشركين: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت: 61 - 63] ويقول تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [لقمان: 25] وقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف: 9] فلو كان معنى لا إله إلا الله: الشهادة الكونية بأنه لا خالق إلا الله، لصار كفار قريش من أهلها! بشهادة هذه الأجوبة! وهم أصول لغة العرب وبلغتهم نزل القرآن الكريم، فلم يفهموا من (لا إله إلا الله) لا خالق إلا الله! لأنه لو كانت هذه هي دلالتها المطابقة للفظ، والمطلوبة من الخلق لقالوها فهم لا ينكرون ذلك! ولكن لما علموا من لغة العرب أن (الإله) هو المألوه المعبود، كـ(كتاب) فِعال، وهو المكتوب، وكذلك (إله) فِعال وهو (المألوه) والتأله هو التعبد، وألَهَ تعني: عَبَد، وتألَّه تعني: تعبّد، كما قال رؤبة بن العجاج:
لله درّ الــغـانيـــــات المدّهِ     سبّحن واسترجعن من تألهّي
أي من تَعبُّدي.
فيكون المعنى المطابق: لا معبود إلا الله، وتقدير الخبر المحذوف: الاستحقاقية، أي:
(لا يستحق العبادة إلا الله) أو: (لا إله حق إلا الله) أو: (لا مألوه ومعبود بحق إلا الله)، وكلها معانٍ صحيحة، لأن المعبودات الباطلة كثيرة، والله هو الأحد الإله الحق، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) [الحج: 62] ولهذا لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم المشركين لعبادة الله وحده قالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5].
فإن قيل: إذا كان معنى يعبدون أي: يوحدوا الله، ويشهدوا أن لا إله إلا الله، فيكون كل من شهد أن لا إله إلا الله فقد عبده، فالله تعالى قد شهد لنفسه بها وقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18] فعلى قولكم يكون الله تعالى: قد عبد نفسه!
وهذه شبهة نطق بها سفيه جاهل! لأنه خلط بين (الشهادة من الإشهاد والإقرار) و(الكلمة: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله) فالشهادة هي الإقرار، وليس مجرد (الإشهاد) عبادة! وإنما: الدينونة بـ: (لا إله إلا الله) قولاً وعملاً واعتقاداً هو العبادة، وإلا فالله تعالى يشهد وشهد على غير (كلمة التوحيد):
[1] فشهد الله تعالى بنزول القرآن، وشهدت به الملائكة، كما قال تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [النساء: 166].
[2] وشهد الله بكذب المنافقين: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 107] وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1].
وهذا من دلائل اسم الشهيد لله تعالى، من الإقرار والعلم والإبصار، فله الشهادة الكبرى الكاملة، قال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 19].
وما شهد الله به فهو حق وصدق لا باطل فيه، ومما شهد الله به وأقرّ به: أحديته سبحانه، كما في قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18].
وهذا تأكيد لاستحقاقية الله للأحدية في ألوهيته، وكمال تصديق وإقرار، بأنه لا معبود حق إلا الله تعالى، فشهد الله بذلك، وشهد به الملائكة وأولوا العلم ورأسهم الرسل.
وحينما شَهدت الملائكة والرسل لله بالألوهية لا تتم لهم الشهادة إلا بتحقيقها قولاً وعملاً واعتقاداً لأنهم مكلفون بأمر الله تعالى، مخلوقون لهذه الغاية، فمجرد الإشهاد الظاهر لا يكفي في تحقق التعبد لله تعالى حتى يأتي بكل لوازم ذلك من القول والعمل والاعتقاد، وإلا فالشهادة المجردة لا تكفي من (المكلفين) حتى يصدق ذلك القول والعمل والاعتقاد، وقد يقولها المنافق إشهاداً وشهادة وهو كاذب فيها!
وقد يُشهد المنافق من يسمعه بأن محمداً رسولُ الله، هو كاذب في شهادته كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1] لأنه لم يأت بها صادقاً من قلبه، فمجرد (الإشهاد) من المكلفين يتطلب ما يحققه في القول والعمل والاعتقاد، وهو بذاته حاقن للدم والمال، مدخل في الإسلام ما لم يخالفه بناقض.
والله عز وجل هو محل الشهادة المشهود بها، بأنه الإله الحق، وهو شهد بها لنفسه، فليس في ذلك أنه يعبد نفسه كما ظنه هذا المعترض.
والكلام في هذا، وفي حقيقة لا إله إلا الله، وأقسام التوحيد الثلاثة أفضت فيه في رسالة مفردة، والله ولي التوفيق.
وكتب
بدر بن علي بن طامي العتيبي
20 ربيع الأول 1435

الرياض

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني