من المختارات لكم (94): مصارحات سلفية

مـصـارحـات ســلــفــيـــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم إنّك من وراءِ القصد، فأصلح شأننا كلّه، وألّف بين قلوبنا، وأعذنا من مُضِلات الفِتن.
اللهمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اُختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أما بعد:
فأكتب هذه الأسطر بصريحِ الِّلسانِ، وبسيطِ البيانِ، بعيداً عن التكلُّفِ، وسلوكِ دروبِ التَّعُسفِ، ومجاملةِ الرَّفيعِ، ومُنازلةِ الوضيعِ، وإنّما هِي خواطرُ تسامرُ البالَ في كلِّ ليلة، عَن قضايا يعاني منها إخواني أهلُ السنة، جاءت على الأخضر من القلوب واليابس! وأنهكتِ الأرواح، وأبعدتِ الأفراح، وشَعَثَتْ الفَريقَ، وشَعَّبتِ الطريق، وتناحَرَت في ساحتها القلوب، وتَصارعتِ فَوق ضِرامها الألسن، ودَبّ بين جموعٍ من إخوانِنا حالقةُ الدِّين، من التباغضِ والفُرقة والشّحناء وفسادِ ذاتِ البين (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118، 119].
وكنتُ كتبتُ عام 1435هـ مقالاً عنوانه: "ارحموا السلفية" واليوم أخوض في لجج المعركة، وأجولُ بين صفوفها بـ: "مصارحات سلفية" أتكلَّم فيها عن قضايا طالما غازلها غيري من طرْفٍ خفي، وتكلَّم بالمجاز والإيجاز، وفريقٌ فرّ من ذلك كلِّه فرارَه من الأسد.
هي مصارحات سلفيةٌ أخويةٌ، لا أناصر بها أحداً على أحدٍ، ولا أقيّد نفسي وقد كساني ربي بلباس الحرية- بيد حزبٍ أو طائفةٍ أو شخصٍ أو شيخٍ كائناً من كان.
أبي الإسلام لا أب لي سواه              إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «فادعوا بدعوى الله التي سماكم المؤمنين عباد الله» فآمنتُ بالله، وبرئتُ من كلّ اسمٍ خلافِ ذلك، برئتُ من الحداديةِ والمغراويةِ والمدخليةِ والحجوريةِ والفالحيةِ والحلبيةِ والمأربيةِ والحِجِّية والجُنيةِ والشَّيطانية! (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) [النجم: 23].
فـ:
دعوني من كلام بني اللُّتيَّا          ومن قومٍ بضاعتهم كلامُ
 سأتكلّم إن شاء الله- عن مسائل شائكة، برسم الإيجاز والإنجاز، بتقريراتٍ وتساؤلاتٍ، وسؤالاتٍ ومناشداتٍ، وإرشاداتٍ ودِلالاتٍ، تَذْكرةً لمن نسي، وأسوةً للمؤتسي، في محطات أمرُّ أنا وأخي القاري وأختي القارئة عليها محطةً تلو محطة، وأعرِضُ ما أُرى فيه الصواب بما يفتح الله تعالى عليَّ من النقل والعقل، على صراط العدل، وسنة أهل الفضل، من علماء السنة، ممن أدركتُ منهم وممن لم أدرك، فأقول مستعيناً بالله تعالى:
المحطة الأولى
ليس للسلفية رجلٌ يجب اتباعه في كل ما يقول
إلا واحدٌ وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وما عداه من البشر؛ فهم بين الصواب والخطأ، من ثريا أبي بكر إلى ثرى العصر! كلهم يصيبون ويخطئون، وليس قول أحدٍ منهم حجة على الآخر، فالعصمة لمن عصمه الله، الذي جاء بالوحي المبين، الذي أرسله الله (شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ) [الأحزاب: 45، 46] (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 2 - 5].
فلا تحمل مخالفتي للشيخِ فلانٍ وعلانٍ أنَّنِي أنتقصُهُ، أو أستهينُ بِعِلْمِهِ، ولا تُحاكِم قَولي إلى قَوْلِه، وإنَّما زِنْ قَوْلي على قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وما المسائل إلا على ضربين:
[1] خلافية نظرية.
[2] وإجماعية قطعية.
فمن خالف الإجماع فقد ضلّ لمخالفته للإجماع لا لخلاف فلان وفلان من أفراد الناس.
ومن خالف في مسألة نظرية خلافية، اختلافهم فيها سائغٌ فلا يجوز أن تُحْمَل الأمةُ على قولِ رجلٍّ واحد، ويمتحنون الناس به، فما زال العلماء يختلفون، ويحصل بينهم صنوفٌ من النظار والبحث، والردود والتعقبات، مع بقاء حق الأخوة الإسلامية، والعصمة الدينية، وكما يقال: الخلاف الحق- لا يفسد للودِّ قضية.
المحطة الثانية
أفريت من اتخذ إلهه شيخه؟
فيعلِّقُ الحبَّ والبغض عليه، وهذا من عُبِّيةِ الجاهلية، ومن قبيح طرائق الحزبية، فربك هو الله، وما شيخك إلا معلمٌ يصيب ويخطئ، ولا ينزّل عليه الوحي من السماء، فلا تقلِّدُه في كلِّ ما يقول، وإنما اتبعه في الحق، وفرقٌ بين تقليدِ العبيد، واقتداءِ الفُضلاء، فمناط الحب والبغض، والصِّلَةِ والهجر، إنما هو الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وملة التوحيد والسنة، وأما الرجال فلا يكون لهم ذلك إلا بقدر ما معهم من الحق.
نعم؛ لعلماء السنة حقٌّ وفضل، ويستحب وصلهم، والسؤال عنهم، والتأدب في ملازمتهم، ومعارضتهم، وحين تعقبهم فيما أخطئوا فيه، ومعرفة سابق فضلهم، ولكن لا يعني ذلك كله أن نقع في آفتين خطّافتين:
[1] آفة التعصب الأعمى للشيخ، وتقليده في كلّ ما يقول.
[2] أو آفة الجرأة على العلماء، وعدم احترامهم، والتأدب معهم، حتى صار الجاهل مترأساً، شاهراً لقوله، لا يهاب العلماء، ولا يرجع إليهم.
وقد روِّينا عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين فقال: أنت على ملة علي أو ملة عثمان؟ فقال: «لست على ملة علي ولا على ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوى" (3/ 347): «فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق، وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة؛ الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها: تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه».
وقال في "مجموع الفتاوى" (28/ 18-19): «فليس لمعلم أن يحالف تلامذته على هذا ولا لغير المعلم أن يأخذ أحدا من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعي: لا ابتداء ولا إفادة وليس له أن يجحد حق الأول عليه وليس للأول أن يمنع أحدا من إفادة التعلم من غيره وليس للثاني أن يقول: شد لي وانتسب لي دون معلمك الأول بل إن تعلم من اثنين فإنه يراعي حق كل منهما ولا يتعصب لا للأول ولا للثاني وإذا كان تعليم الأول له أكثر كانت رعايته لحقه أكثر. وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البر والتقوى لم يكن أحد مع أحد في كل شيء؛ بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله؛ ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبية جاهلية ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله ولا تفرق ولا اختلاف؛ ولا شد وسط لشخص ليتابعه في كل شيء ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله. وحينئذ فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد؛ ولا ينتمي أحد: لا لقيطا ولا ثقيلا ولا غير ذلك من أسماء الجاهلية؛ فإن هذه الأمور إنما ولدها كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد فيوالي من يواليه ويعادي من يعاديه مطلقا. وهذا حرام؛ ليس لأحد أن يأمر به أحدا؛ ولا يجيب عليه أحدا؛ بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة؛ يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله حتى يصير الناس أهل طاعة الله أو أهل معصية الله فلا تكون العبادة إلا لله عز وجل ولا الطاعة المطلقة إلا له سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم».
وقال (28/ 20-21): «ومن حالف شخصا على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين؛ بل هؤلاء من عسكر الشيطان ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان وإذا كان الحق معي نصرت الحق وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل. فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا».
ومن ذلك ليس أمر الشيخ بهجر أحدٍ من الناس يؤخذ على إطلاقه في كل ما يطلق ويقال، بل قول الشيخ وشيخه وشيخ شيخه وأقوال أئمة الجرح والتعديل تُعرض على قواعد العلم والعدل، وينظر في صحة ما قال من عدمه، فقد يكون الشيخ قد أخطأ في حكمه على المذكور، إما لكذب في النقل، أو أنه ذمّه بما ثبت رجوعه عنه، أو غير ذلك من المعاذير الشرعية السائغة، وليس للشيخ أن يجرح بغير بينة ترتضى، وتكون هي محل الجرح وسببه، ولا له أن يلزم طلابه أن ينفذوا قوله، ويهجروا مسلماً بغير حجة وبينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (28/ 15): «وإذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك فإن هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصارى والحزَّابون مع اليهود ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم، وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته: «أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم» وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص؛ أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك: نظر فيه فإن كان قد فعل ذنبا شرعيا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة وإن لم يكن أذنب ذنبا شرعيا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره».
وإذا تكلم الشيخ بالبينة الشرعية، وثبت موجب الجرح فإنّ قوله يحترم، ويؤخذ به بحقه، وهو العدل وعدم الظلم.
المحطة الثالثة
ليس كلّ من أخطأ في الإسلام ينسب له باسمه طائفة!
وهذه هي آفة التصنيفات التي نعاني منها اليوم، والأصل في ذلك قول الله تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11] فالتصنيف بغير حقٍّ سماه الله تعالى ظلماً، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: قال: «اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر - أو المهاجرون -: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ دعوى الجاهلية؟».
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (28/ 15-16): «وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)...».
فليس كل من يخطئ على مرّ تاريخ الإسلام يُنسب له بقوله طائفة، تُحزَّب بِهَا الأمة، وتُصنَّف بها الناس، إلا بشرطين اثنين:
أولهما: أن تكون مخالفته في مسألة بدعيةٍ محدثةٍ يُفتن بها الناس، محلُّ إنكارها محلُّ إجماع واتفاق بين العلماء؛ كبدعة القدر والخروج والرفض والتجهم والإرجاء ونحو ذلك مما يحدث من البدع بعد ذلك كالقاديانية والتيجانية.
والثاني: أن يكون لهذا الشخص موافقون له على مذهبه، متبعون له، ملتزمون بما يقول.
ويضاف ثالث: حين تميّز فرقةٌ نفسها عن المسلمين بشعارٍ أو خرقةٍ أو طريقةٍ، فتَختلقُ اسماً محدثاً لا تريد من وراءه إلا مفارقة ما عليه المسلمون، فهذه فرقةٌ تصنّف وتسمى باسمها، ومن ينتسب إليها يُلحق بها في الحكم، ولا يُصحِحُ فعلَهم زخرفةُ الأسماء والألقاب، حين كان قصدهم سيئاً مخالفاً للشرع، وتكون سنةُ لقَبِهِم سُنَةَ مَسْجِدِ الضِّرَار، فما أفادهم كونه مسجداً، وتصلى فيه الفروض، لمّا كان المراد به التفريق بين المسلمين، والإرصاد لمن حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 107، 108].
وعليه فإن في السَّاحة أسماء فرقٍ قد ظهرت منها ما ثبوت المفارقة منهم ظاهرٌ واضح، وقد تحقق فيها ما سبق ذكره من قيود.
ومنها ما النسبة إليها وإثبات وجودها خطأ واضح، لا يزيد الداء إلا داءً، ولا يزيد القلوب إلا بلاءً.
ففرقة الإخوان المفلسين فرقة ضالة واضحة الضلال خالفت جماعة المسلمين في أصولها وغاياتها، وميزت نفسها عنهم بهذا الاسم عن بقية المسلمين.
ومثلها فرقة التبليغ، وكذا السرورية بتصريح مؤسسها محمد بن سرور زين العابدين.
فأمثال هذه الفرق لا دافع لوجودها، وليست هي مرادي من الكلام، ولكن القصد هو ما أحدثه بعض السلفيين من الخاصة والعامة من أسماء فرقٍ نسبوها إلى أشخاصٍ ما قبلوا هم النسبة إليهم بها، ولم يكن لهم من المقالات العظام التي توجب تلك النِّسَب، وإنّما هي باجتهادات ومخالفاتٍ هي بين الصواب والخطأ، وحضور الشبهة وغيابها، فصيرها التصنيف ناراً بعدما كانت شرارة! كـ: الحدادية والمغراوية والفالحية والمدخلية والمأربية والحجورية وغير ذلك من التصانيف المولَّدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولو سألتَ قائلاً منهم بأي شيء صنَّفت هذه الفرقة؟ ما ذكر لك قولاً فارقاً، وصفة كاشفةً تميز هذا عن غيره، سوى مقالة هي بين الصواب والخطأ، ومحلّها محلُّ النظر والاجتهاد، وحتى لو كانت بدعة من البدع، فليس كل من وقع في بدعة عقدية أو عملية تنسب له بها طائفة، وإنما يكون هذا فيما تعظم به الفتنة كما تقدم الإشارة إليه من القول في القدر والصفات والصحابة والإيمان ونحو ذلك، وإلا فعلى مرّ التاريخ كم من شخص تكلم بصنوف من المقالات المنكرة، وربما تبعه في ذلك أقوام ولم تنسب إليهم طائفة بما أحدثوه من بدعة! كيف وكثير ممن تنسب لهم تلك الطوائف اليوم هم من أهل السنة، ويؤصلون أصولهم، ولم يخرجوا عن قواعد عقائدهم، والعناية بمؤلفاتهم التي هي بين أيدينا! حتى لو أخطئوا وظلموا، فالخطأ والظلم لا يُرد عليه بالخطأ والظلم! وإنما يرد عليه ببيان الصواب والعدل.
وينسب الخطأ إلى صاحبه، ولا يجوز أن ينسب إلى غيره بمجرد دفاعه عنه أو إعذاره، أو تأويل كلامه، أو مصاحبته (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام: 164] .
ولأنني ممن لم يسلم من تصنيف الجاهلين، وعدوان الغالين، وأنا ابن أبي ولا أتّبعُ غيرَ النبيr وسلف الأمة؛ أخصُ محمودَ الحداد بشيء من الكلام لأنّ أولئكَ اتهموني كثيراً بالحدادية المزعومة! ولا علاقة لي به، ولا أتبعه في قولٍ من أفراده، ولا زلة من زلاته، ولم أره في حياتي إلا مرة واحدة، وعارضته حينها في بعض المسائل، وقد وقفتُ على جملةٍ من أخطائه وتجاوزاته، من عام 1414هـ، واطلعت على بعض ردود العلماء عليه، كردّ أخي فضيلة الشيخ صالح سندي حفظه الله تعالى، وما كتبه هو في معارضتهم، ومن أشدِّ ما استنكرته منه:
[1] تبديع من لا يستحق التبديع من المعاصرين والمتقدمين.
[2] الغلو في "حكم المبتدع" و"التعامل معه".
[3] الجرأة على من وقع في بدعة من علماء الإسلام، والامتحان بذلك! كأمثال أبي حنيفة وابن الجوزي والنووي وابن حجر والشوكاني وأمثالهم، و(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 134].
فإن المبتدع الملّي؛ من فساق الملة، ووصفه بالبدعة لا يعني "سلب" كامل حقوقه الإسلامية، فيبقى له من الحقوق الإسلامية بما بقي معه من الإيمان، ولا تزول الحقوق الإسلامية إلا بزوال الإيمان بالكلية، وقد يمنع صاحب البدعة من "بعض حقوقه" كالسلام والصلاة عليه، وصلته، والانبساط له، لمصلحة شرعية راجحة بما يسمى موجبات الهجر المعلومة عند العلماء.
ومن وقع في بدعةٍ من هذا الجنس من علماء الإسلام؛ يعامل بالعدل ولا يُظلم، وقد تكلمت عن هذا في رسالة مختصرة لي عنوانها: "الموقف ممن وقع في بدعة من علماء الإسلام" فلتراجع، فالبدعة زلة يقع فيها المرء سواء باجتهاد أو بهواه، وعن علمٍ أو جهل، والتعامل معه فرع من اعتبار نوع البدعة، وحال المبتدع، وكونه داعية أو غير داعية، ومعرفة أثر الزمان والمكان في الهجر والتحذير ونحوه، وليس في ذلك في عمل السلف وأقوالهم طريقة واحدة لا تتغير، بل تجد منهم الصلة تارة والهجر في أخرى، واعتبار المحاسن تارة، وعدم النظر إليها عند آخرين، وهذا من الفقه في التعامل مع المخالفين، كحال الكفار في التفريق بين المحارب والمسالم، والتعامل معهم في حال قوة المسلمين وحال ضعفهم، وهذا كلّه تحت القاعدة الشرعية العظمى من تحصيل المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، وكم من صاحب بدعةٍ شنّع عليه الأئمة، وزجروه وزبروه، بل ربما ضربوه وبأمر السلطان قتلوه، وتركوا السلام والصلاة عليه، وتمخطوا عند ذكره، وهجروا من جالسه أو ماشاه، في صور عديدة ذكرتها في كتابي "اللمع من مواقف أهل السنة مع أهل البدع" وبالضد من ذلك ستجد في التاريخ السَّلفي العادل من حسن تعاملهم مع بعض أهل البدع، والثناء عليهم، ومعرفة محاسنهم في الإسلام كقتادة وابن أبي روّاد وسلام بن مسكين وهشام الدستوائي وعمران القطان، وكما ذكر العقيلي في "الضعفاء" (1/302 ) عن معمر قال: كنت إذا دخلت على أبي إسحاق يقول: من أين جئت؟ فأقول: جئت من عند حماد فقال: «ذاك أخونا المرجئ» وسفيان الثوري كان يأتيه خفية، كان رأساً في الإرجاء قاله جرير الضبي.
وكما حصل أن الإمام أحمد ذكر إبراهيم بن طهمان وكأن رأس المرجئة في وقته، وكان الإمام أحمد متكئاً فجلس، وقال: «لا ينبغي إذا ذُكر الصالحون أن يُتكأ!» فعَرَف له فضله لأنه كان شديداً على الجهمية.
وأمثال هذه الأمثلة ذكرتها في مواطن عديدة، وهذا مما يدل على أن الأئمة حين يتعاملون مع أهل البدع لا يؤخذ هذا التعامل قاعدة كليِّة في كلّ حال! وإنما يُنظر في: المقالة وحال الهاجر والمهجور والزمان والمكان في خمس اعتبارات ذكرتها في "الرسالة العينية" منقولة من مفترق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (28/ 213): «وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت حكمها في نظيرها. فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية؛ بل تركوها ترك المعرض؛ لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به. فهذا هذا. ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله سبحانه أعلم».
وقال أيضاً (10/ 376-377): «وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها وإما عقوبة فاعلها ونكاله. فأما هجره بترك [بياض] في غير هذا الموضع. ومن هذا الباب هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ولمن تاب بعد الإجابة ولمن فعل بدعة ما؛ مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة؛ فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق. حتى قد قيل إن اثنين منهما شهدا بدرا وقد قال الله لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أهل العقبة فهذا " أصل عظيم " أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلا أو رجلا صالحا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة؛ وبين عقوبة الآخرة والله سبحانه أعلم».
إذا عُلم هذا من كلام شيخ الإسلام وهو ما قرره قبله الأئمة الأعلام يُعلم خطأ الحداد في مجازفته في التعامل مع أهل البدع من جانب، ويقابله في الجانب الآخر من بالغ في إعذار أهل البدع فيما وقعوا فيه من بدع مهما علت منزلتهم، وارتفعت مكانتهم، كأبي حنيفة وابن حزمٍ والبيهقي وابن حجر ومن لفّ لفيفهم، فهم وإن وصفوا بالعلم، وخدموا الإسلام في جوانب، لا يعني التكلّف في حجب ما هو واقع في مقالاتهم من سوء عقائد المرجئة والأشاعرة والصوفية ونحوهم، فهم من عداد أهل البدع، ويعاملون كما عامل أهل السنة أهل البدع في القرون الأولى بالعدل والعلم لا بالظلم والجهل، وفرّقوا بين الداعية وغير الداعية، ومقالة وأخرى، وغير ذلك، ومتى خوصمت السنة وعقائد أهلها بمقالات أولئك العلماء ومذاهبهم رُدّت وغلّظ عليهم، فللسلم والسلامة مقام، وللحرب ومقارعة أهل البدع مقام.
ويبقى مسألة مهمة:
وهي أنه عندما أخطأ الحداد فيما ذهب إليه، لا يُبيح ذلك لأحدٍ أن يظلمه أو يعاقبه بما فوق العقوبة الشرعية، وعنده من موافقة أهل السنة والجماعة والانتصار لمذهبهم في الصفات والإيمان أشياء لم تكن عند غيره، فكما يُطلب الإنصاف مع أبي حنيفة والبيهقي وابن حجر والنووي كذلك يطلب العدل مع الحداد، ولئن كان خطأ الحداد في حق البشر ظلماً وتجاوزاً منه، فخطأ كثيرٌ ممن ذكرت وممن لم أذكر كان في حق ربّ البشر سبحانه وتعالى وأصول اعتقاد أهل السنة التي انعقد عليها إجماعهم.
فلا يُقرّ الخطأ ممن جاء به، فيُحاكم الجميع بميزان العدل، ولا يجوز ظلمه، ولا معاقبته بأكثر مما يستحق من العقوبة والرد، والله تعالى قد أمرنا بالقسط والعدل في الحكم بين الناس فقال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8] وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].
فنحكم بينه وبين أبي حنيفة والبيهقي وابن حجر والنووي وأشباههم بالعدل، ولا يجوز أن يظلم هذا على حساب أولئك، ولا أولئك على حساب هذا، فإنَّ هذا من محض الهوى والعياذ بالله.
ويتلوها مسألة أخرى، وهي محلّ الكلام -وحديثي كلّه جلاءٌ ومصارحات!- وهو أنني لما أنكرتُ أن ينسب إلى الحداد طائفة؛ غضب عليّ بعض الفضلاء، وبالغ آخرون وهجرني بسبب ذلك! مع علمهم بأنني لا أوافقه في شيءٍ مما خالف فيه، بل قيّدتُ عليه عدداً من الأخطاء العلمية والحُكمية والمنهجية فيها من الغلو والتجاوز الشيء الكثير، كزعمه أن أهل البدع يخرجون من خطاب الله تعالى بـ (يَا أيُّها الَّذِينِ آمَنُوا) ولا تشملهم رحمة الله تعالى، ولا يدخلون في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن» ولا يكون في أهل البدع صادق ولا زاهد ولا تقي! وكل هذا من الغلو في معاملة أهل البدع والحكم عليهم، ومهما كانت نيته حسنة في الانتصار للسنة، والرد على أهل البدع لم يكن جائزاً له أن يحكم بالظلم، ويتجاوز في العقوبة.
فكيف أنسب نفسي أو أقبل أن أُنسب- إلى رجلٍ أخالفه ولا أقول بقوله؟
وبعض من لم ينسبني إليه استنكر عدم إثباتي لهذه النسبة وشنّع عليّ وهجر! بمجرد نفيي لهذه النسبة، وسبحان الله العظيم، فالرجل لم ينسب أحداً إليه، ولم يأتِ في الإسلام بعقيدةٍ فاسدة في أمهات مسائل التوحيد والاعتقاد والسنة المشهورة، وإنما هو الغلو والبغي في مسائل الأسماء والأحكام على الأعيان وردّه عليه العلماء، فكيف يُنسب إليه بذلك فرقة؟
فإن قيل: قد أثبت هذه النسبة جماعةٌ من العلماء.
قلتُ: وهم على العين والرأس؛ وآخرون عاصرتهم وجالستهم، وقد عاصروا الحداد وفتنته وما نطقوا بهذه النسبة!
ومخالفتي لأولئك العلماء في إطلاق هذه النسبة لا تعني إباحة ما حرم الله تعالى من حقي في الإسلام والسنة، فلم آت في الإسلام ببدعة، ولم أخرق إجماعاً، ولا تزال أرحام الأفكار تنجب يوماً بعد يوم أسماء محدثة جديدة! فنتبع من ونترك من؟
وغاية ما أقول دوماً فيه: «الحداد وأصحابه» أو من قال بقوله، فله أنصار وأصحاب يقول مثل قوله، وهم لا يستقرون معه ولا على ما هو عليه، وكلّ من ينسب له في يوم يناهضه ويخالفه فيما يليه، فلا يلزم من ذلك أن ينسبوا إليه، وإنما يقال: «الحداد وأصحابه» كما يقال في غيره ممن شذَّ وانفرد.
تتمة:
لما ذكرتُ غلو الحداد في حكم أهل الأهواء، وهذا من جنس قول جماعة من الذين غلو في حكم أهل الأهواء وحكموا بتكفيرهم، وهي مسألة "تكفير أهل الأهواء والبدع" مسألة مشهورةٌ؛ تكلَّم عنها أهل العلم من قديم الزمان قبل أن يُخلق الحداد وعاشر أجداده! قال ابن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة" (ص: 306): «اختلف أهل العلم في تكفير أهل الأهواء، فمنهم من قال: إنهم كفار مخلدون في النار. ومنهم من لا يبلغ بهم الكفر ولا يخرجهم عن الإسلام ويقول: إنهم الذين عليهم فسوق ومعاص إلا أنها أشد المعاصي والفسوق، وهذا مذهب مشايخنا بالأندلس، والذي يعتقدونه فيهم وكانوا يقولون لا يواضع أحد منه الكلام والاحتجاج ولكن يعرف برأيه رأي السوء ويستتاب منه فإن تاب وإلا قتل».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (3/ 351-352): «وهذا يبنى على أصل آخر وهو " تكفير أهل البدع " فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم فإنه لا يكفر سائر أهل البدع بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله هم في النار مثل ما جاء في سائر الذنوب مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين: منهم من يكفرهم كلهم وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين. وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير " المرجئة " و " الشيعة " المفضلة ونحو ذلك ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع - من هؤلاء وغيرهم خلافا عنْهُ أَوْ فِي مذْهبهِ حتَّى أَطْلقَ بعضُهمْ تَخْلِيدَ هؤُلاء وغيْرهِمْ وهذا غلَطٌ علَى مذْهبهِ وعلى الشَّريعةِ، ومنْهمْ منْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحدًا منْ هؤُلَاءِ إلْحاقًا لِأَهْلِ الْبدعِ بأَهْلِ المعَاصِي قالوا: فكما أَنَّ من أُصولِ أَهلِ السنةِ وَالجماعة أَنَّهُمْ لَا يكفِّرونَ أحدًا بذنْبِ فكذلك لا يكفِّرونَ أَحدا ببِدْعَةِ».
وقال مجموع الفتاوى (7/ 618): «والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك " قولان " كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع؛ وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى؛ وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء؛ وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد».
وتكلّم عن ذلك شيخ الإسلام في مواطن أخرى  كـ (12/466 ، 485-486) (23/348) وغير ذلك.
فتأملوا كيف أن طائفة ممن ينتسب للأئمة مالك والشافعي وأحمد، غلو في حكم أهل البدع وحكموا بكفرهم! ومنهم من اعتبره رواية للإمام أحمد، ومع ذلك ما جُعل هذا القول منهم ذريعة إلى أن ينسب إلى أحدٍ منهم طائفة تحمل اسمه، بل حكموا بخطئهم، وميزوا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، ورحموا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من تلك التصنيفات التي بُليت بها الأمة اليوم.
والتجاوز في الإنكار على المبتدعة والمخالفين بما يخرج سقف العدل ويتجاوزه من الظلم والإحداث في الدين، وهذا مما يقع عند كثيرٍ ممن المتشددين في التمسك بالسنة من الحنابلة وغيرهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 186): «وفي الحنبلية أيضا مبتدعة؛ وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر وبدعتهم غالبا في زيادة الإثبات في حق الله وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره؛ لأن أحمد كان مثبتا لما جاءت به السنة؛ منكرا على من خالفها مصيبا في غالب الأمور مختلفا عنه في البعض ومخالفا في البعض».
ومحمود الحداد من هذا الجنس، حمله الانتصار للسنة وأصول أهلها على كثير من التجاوزات والجرأة على أهل العلم وعلى الأئمة، والله المستعان.
والخلاصة:
أن التلاعب بهذه التصنيفات أوغرت القلوب وأفسدت الأخوة وأذهبت عصمة المسلم مع المسلم، والله المستعان.
المحطة الرابعة
مسألة العذر بالجهل
وهي من المسائل التي كثر فيها الصراع بين السلفيين أنفسهم، وتكلم فيها الجهال أكثر من كلام العلماء، ورتبوا على فهومهم ومبلغ علومهم الأحكام على المقالات والأشخاص، وألحقوا أمما بالخوارج، وآخرين بالمرجئة، بغير عدلٍ ودين ولا سلطان مبين!
وكنت كتبت رسالة لأهل الأحساء منشورة تحت عنوان: "رسالة في التحذير من الفرقة وتفصيل القول في مسألة العذر بالجهل" أوصي بمراجعتها، فمن الخطأ والجهل إطلاق القول: بأن المسلم يُعذر بالجهل أو لا يُعذر!
ويقول قائلهم: «فلان تكفيري أو حدادي! لا يعذر».
فيقابله الآخر ويقول: «فلان مرجئ أو مميع يعذر».
وهذا كلّه جهل، فالمسألة فيها تفصيل وتبيين وفروقات، وقد أنشد ابن القيم:
فعليك بالتفصيل والتمييز فالإ
قد أفسـدا هـــذا الوجود وخبطا الـ

طلاق والإجمال دون بيان
ـأذهـــان والآراء كــل زمـــــانِ
  فمن المسائل ما لا عذر فيها باتفاق أهل السنة ومن عذر فيها فهو مرجئٌ شاء أم أبى، ومن المسائل الجاهل فيها معذور، ومن لم يعذر فهو خارجيٌّ شاء أم أبى، ومن المسائل ما هي محل خلاف بين أهل العلم أهي مما يُعذر فيه بالجهل أو لا؟
وآفة الآفات في ردود الأفعال، وربما تسوق القدم إلى الضلالة، فليس كلّ ضدٍّ للباطل يكون حقاً، فقد يقابله باطل من جانب آخر، والإفراط يقابله التفريط، والغلو يصادمه الجفاء، روى الخلال رحمه الله  في كتاب "السنة" (92/أ - مخطوط) وعنه نقل شيخ الإسلام بن تيمية في "الفتاوى" (5/431) قال الخلال: أخبرنا المروذي في هذه المسألة [أي الجبر] أنه سمع أبا عبدالله لمّا أنكر على الذي قال: «لم يجبر» وعلى من رد عليه وقال: «يجبر» فقال أبو عبدالله: «كلّما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها، وقال: يستغفر ربَّه الذي ردّ عليهم بمحدثة، وأنكر على من رد شيئاً من جنس الكلام إذا لم يكن له فيه إمام تقدم».
وكذلك هذه المسألة؛ فقد يكون المرء في عافية من الإرجاء والخروج، ولكن يبالغ هذا في نفي العذر حتى يقع في مذهب الخوارج، ويبالغ ذاك في إثبات العذر حتى يقع في مذهب المرجئة، والمسلم المهتدي يعرف الحق ويلتزمه بحكمة وعقل وعلم، ويرد بعدل وقسطاس مستقيم.
المحطة الخامسة
لا يشترط أن أوافقك في كلّ أحكامك على الرجال
وهي ناتج لمسألة الاختلاف بين الجرح والتعديل، وأيهما يقدم، فالمشكلة اليوم ليست في المقدّم منهما كيف يكون، ولكن الإشكال الأكبر أن منّا من إذا خالفه أخوه المسلم في الحكم على شخص، لا يقبل منه إلا أحدَ أمرين:
إما أن يوافقه في الحكم ويقبل صحبته؛ وإما إن يكون مخالفاً مهجوراً مزجورا!
وهذا جهل؛ ومخالف لما عليه قسطاس العدل في الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح في الأحكام على الرجال، فليس كل من خالفني في الحكم على الرجال ألحقه بهم، فإنَّ هذا يختلف باختلاف ظهور حال الرجل المختلف فيه من عدمه، فعندما يقول بعض السلف فيمن أثنى على أهل البدع: «يلحق به ولا كرامة» المراد من استبان له حاله، ولم يكن لدى العاذر له والمدافع عنه حجةٌ تحمله على ذلك، أو يكون موافقاً له في بدعته، أما إن خالف الجرح لأسباب سائغة فإنه يعذر، وهي كثيرة ذكرتها في مواطن، ومنها:
[1] أن يكون ما جُرح به موجباً للجرح باتفاق العلماء أما ما كان من مسائل النظر والاجتهاد فلا جرح به، واليوم يجرح الكثير بأمور لا توجب الجرح أصلاً بله أن تكون مسائل الخلاف والنظر السائغ.
[2] ثبوتُ موجب الجرح؛ فقد يثبت عند أحدهما ولا يثبت عند الآخر، واليوم تطير الركبان بالأكاذيب والفرى، أو يفتوى عامة من شيخٍ وينزلونها على شخص معيّن!
[3] أن يكون الجرح مفسراً بما يوجب الجرح لا دخل للتعصب والهوى فيه.
[4] أن لا ينفي الجرح من عدّله بحجة وبينة من طريق أخرى.
[5] أن لا يوجد في كلام المجروح ما يعارض ما جُرح به، فيطلب الجمع أولاً، أو النظر في أثبتهما عليه.
[6] أن لا يكون الجارح مجروحاً في نفسه، أو ليس أهلاً للجرح والكلام في الرجال.
وغير ذلك من الضوابط المهمة، وشرح كلّ واحدٍ منها بدلائله من كلام الأئمة والنقاد مبسوط في غير هذا الموضع، فليس من العدل ولا العقل أن يلزم الشخص إخوانه أو الشيخ طلابه على الحكم بحكمه، وهجر من لا يقول بقوله، فإن هذا من جنس الظلم الذي حرمه الله تعالى على عباده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما تقدم نقله (28/ 15): «وإذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك فإن هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصارى والحزَّابون مع اليهود ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم».
وكم اختلف السلف في كثير من الرجال، ولم تذهب العصمة بينهم، بل بقيت المحبة والألفة، وعذر بعضهم بعضاً فيما ذهبوا إليه من أقوال في أحكام الرجال وعقائدهم.
تتمة:
من نظر إلى كثيرٍ من النزاعات الحاصلة بين كثير من السلفيين اليوم، وعرضها على ميزان الشرع، وجد أن الهوى فيها غلابٌ، وأن حظوظ النفس مؤثرة، وأن الجهل بما عليه السلف الصالح من قواعد التعامل والهجر منتشر بين أولئك المختلفين، وكذلك الجهل بمقدار ما يوجب الهجر وما لا يوجبه، فالواجب على طلاب العلم أن يتقوا الله تعالى، وأن يراقبوه فيما يقولون ويفعلون، فهجر المسلم بغير حقٍّ ظلم وكبيرة من كبائر الذنوب، والغيبة والبهتان كذلك، وما يحصل من وراء ذلك من أذية المسلم، وإدخال الحزن على قلبه، وما زاد من بث الفرقة بين المسلمين، وتحزيب الناس على ذلك، ومن كان مع ذاك فهو عدوي، ومن كان معي فهو صديقي، كلّ ذلك ليس من دين الله تعالى في شيء.
وكذلك الواجب على كبار العلماء: تأديب الطلاب، وزجرهم عن الاشتغال بالكلام في الأشخاص، وتصانيف الفرق، قبل أن يتعلموا العلم، ويعرفوا السنة، وترك باب النقد، والجرح والتعديل للعلماء الكبار العارفين العادلين، المشهود لهم بالديانة.
وكذلك الواجب عليهم حين تبلغهم خصومة وشحناء بين طلابهم وأصحابهم أن يبادروا بالإصلاح، فالخلاف شرارة إن تركوها تزيد اشتعلت في الجميع، وفرقت الصفوف، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10] فنُرحم جميعاً من الخلاف والإثم حينما نصلح بين إخواننا.
المحطة السادسة
اُكسُ ألفاظَك بكساء الأدب
قال المُزَنيِّ: سمعني الشَّافعيُّ يوْماً وأنا أقولُ: فلانٌ كذَّابٌ، فقال لي: «يا إبراهيم؛ أُكسُ ألْفَاظَكَ أيْ حَسِّنْهَا- لا تَقُل: كَذَّابٌ؛ وَلَكْنْ قُلْ: حَدِيثُهُ لَيْسَ بِشَيءٍ».
فكذلك معاشر إخواني اكسوا ألفاظكم، فالله تعالى قال عن نبيكم عليه الصلاة والسلام: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [آل عمران: 159] وهو أصدق سلفٍ لهم ومتبوع، فكونوا مثله، اكسوا ألفاظكم، وتجنبوا العبارات النابئة، والألفاظ السوقية، مما تمجه منكم الأسماع، وترفضه العقول السليمة، فانتقوا أطيب الكلام (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83] ولا يُتجه إلى الغلظة في العبارة، وقساوة الكلمة؛ إلا عند أضيق الحالات مع من يستحق ذلك من أهل الغي والعناد تبكيتاً له وإذلالاً، وإلا فالأصل الذي لا يغادر، والسبيل الذي يُلتزم؛ القول الحسن، واللطف بالناس، واحترام نظر المتابعين وأسماعهم.
المحطة السابعة
لا تقطع خطوط الرجعة
جاء في "نثر الدر" (3/167) أنه قيل لأبي سفيان: بما سدتَ قومك؟ فقال لم أخاصم أحداً إلا تركت للصلح موضعاً.
وجاء في الأثر -وروي مرفوعاً ولا يثبت- : «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وأبغض عدوك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما به».
فعلى رِسْلِك إن خاصمت، واترك مساحة للرجوع، وميداناً للتعافي، ولا تُطلق كلّ ألفاظِ السَبِّ والمُفاصَلةِ والَّلعْنِ والشَّتْمِ، وكأنَّكَ لا تُريد الهداية له بوجه من الوجوه، فقد جعل الله لك يدين! ناده إلى الحق بواحدة، وأدِّبه بالأُخرى، وكُنْ على سُنَنِ المرسلين: مبشرين ومنذرين، وادفعه بسوط الخوفِ، وافتح له باب الرجاء.
وكيف يرجع إلينا من شهرنا به في تويتر والواتساب وقلنا عنه: «غبي وجاهل وخبيث وفاجر ولعين ومراوغ ومتلاعب وكذاب!».
لا تجعلوا الناس في التعامل على مسطرة، وكلُّ من خالفكم تتعاملون معه بتعامل واحد من القسوة والشدة والفظاظة والغلظة!
فللجاهل حق التعليم، وللعامي رحابة العذر، وللمتأول تقدير النظر، وللمعاند عقوبته بما شرع الله لا بما قوي عليه منا اللسان، ونالته اليد!
المحطة الثامنة
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
السلف عقلٌ وأدب، فإن كنتم تستخفون بعقول كثير من الجاهلين الماجنين الذين يخرجون في مقاطع سخيفة، وألفاظٍ نابئة، فلا تقعوا فيما وقعوا فيه، من الطنازة! والقهقهة، والهاءات، وسخيف الكلام، وماجن القول، فأنتم في جهاد، نعم؛ في جهاد في سبيل الله تعالى، في عبادة عظيمة، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45] فاثبتوا وتحلوا بالذكر والصبر، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125] فجادلوا بالتي هي أحسن، ودعونا من سبيل الماجنين، والعبارات السوقية كـ: حريم السلطان، وخرفان أوردوغان، ونحوه ذلك، ارفعوا أنفسكم، فأهل البدع في الحضيض يريدون أن تنزلوا معهم كما نزلوا، وتتلطخوا بما تلطخوا به من الجهل والسخف والمجون، فصونوا أنفسكم عن أمثال هذه السخافات، وتلك العبارات، واضربوا منهم بالحجة والعلم فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان، فأنتم والله الأعلون، وأنتم على الحق، فلا تُهينوا الحق بهوانكم، ولا تنزل رتبته بفساد أسلوبكم، فأنتم مؤتمنون على دين الله تعالى، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم.
المحطة التاسعة
علامةُ صاحب السنة: سلامة الصدر
روى الهروي وغيره عن عنبسة بن سعيد الكلاعي أنه قال: «ما ابتدع رجل بدعة إلا غل صدره على المسلمين واختلجت منه الأمانة» فخالف سبيل أهل البدع، وكن سلفياً حقاً، وانزع الغل من قلبك، لتذوق نعيماً من نعيم أهل الجنة، ولا تحمل على أحدٍ من الناس غلاً، وليكن إخوانك منك في حلّ مهما قارفوا وجنوا، وما كنت لأنصحكم وأخالفكم لما نصحتكم عنه، فأنا أشهدكم وأشهد كل من نظر، أن من تكلم فيّ من إخواني السلفيين في حلّ، وأسأل الله تعالى أن يجعل قوله فيّ له أجراً وطهرة، وأن يغفر زلته، ويتجاوز عنه، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22] وقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134] فلماذا يبخل المرء على نفسه بمثل هذا الفضل العظيم من مغفرة الله ومحبته له؟
المحطة العاشرة والأخيرة
كبّر كبّر
طالما كنا نعيّر أهل البدع بأنّهم في معزلٍ عن العلماء، ولا يحترمونهم، ولا يلازمون مجالسهم، فهل نحن فعلاً- لازمنا العلماء أصدقَ الملازمة، وأشغلنا العلم عن غيره من هذر الكلام ولغوه؟ أم أننا نصحب العلماء لشيء في نفوسنا، واستنقاذ فتوى صباحية لمعركة الكترونيةٍ ليلية؟
فلا تفارقوا ركب العلماء ومجالسهم، واهتموا بالعلم والتحصيل، فهم ليسوا خالدين! فاصنعوا لنا علماء المستقبل، وأئمة الغد، بعلومٍ يحتاجها الناس في كلّ حينٍ وآن، وإن نبغ من إخواننا طالبُ علم فأعينوه على العلم، واشكروا له ذلك، وشدُّوا من أزره، وذبوا عن ظهره، واغتفروا زلته.
فلا يزداد الأمرُ إلا شدّة، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، فاحرصوا على العلماء، واستفيدوا من علومهم، وليشتغل السلفيون الصادقون بإعداد المجددين الراسخين.
خــاتـمــة
للأخوات السلفيات؛ وطالبات العلم المُقبِلات؛ عليكُن جهادٌ لا قتال فيه؛ بالتعبد والتعلم، وليس لكُنَّ في صراعِ المبتدعة، والرد على المبطلين والملحدين والغالين سبيل، ولا لكُنَّ في ذلك سَلَف من نساء الصحابة والتابعين وأئمة الدين، فلا ينبغي للمرأة أن تنزل في عراك الجرح والتعديل، ونقد الرجال، والقيل والقال، فالْزَمَنَ ظُهور الحُصُر! واشتغلْنَ بالعلمِ والتَّحصيلِ، ودعوةِ النساء إلى الله تعالى، ولديكُنَّ من فُرصة سماع الدروس المسجلة لكبار العلماء ما ليس لكثير من الرجال كأشرطة شيخنا عبدالعزيز بن باز والألباني وابن عثيمين عليهم رحمة الله تعالى، ومن الأحياء شيخنا صالح الفوزان وصالح آل الشيخ حفظهم الله، وغيرهم.
والحذر الحذر من فساد ذات البين، والتحزب والفرقة، والعراك على الأشخاص وأحوالهم، فإن صحّ منكن الدين، واستقامت السنة، فالناس من حولكم يصيبون ويخطئون، فمن المؤسف أن بعض الأخوات تَهجر وتُهجر تحت راية: لمن تسمعين؟ ومن تتابعين؟ وهل أنتِ فلانية أو فلانية؟ من تلك التصنيفات المُضِلّات المظلمات والله المستعان، فاتركنّ هذا كلّه، والعاقلة لا تُشغل نفسها بكل ما يُضيّع أجرها، ويُفسد عملها، ويحجِب عنها العلم، وأخُصُّ منهنّ من كانت في سنّ الشباب، فالوقت يوماً يوماً عليها يضيق، والمسؤوليات تكبر، والحقوق تكثر، فإن فاتها تحصيل أكبر قدرٍ من العلم اليوم، وأوفر نصيبٍ من المحفوظات والمسموعات والمقروءات، فإنّها قد لا تجد ذلك في مستقبل عمرها مع الزوج والأولاد والبيت، وآمل مراجعة مقالي: "طوبي للغريبات .. ماذا نريد منهن".
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الجمعة 15 صفر 1437هـ

الطائف

تعليقات

  1. مقال جيد بل رائع جزاكم الله كل خير شيخنا ورفع مقامكم في الدارين

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني