من المختارات لكم (136): رسالة نواقض الإسلام لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب.

رسالة

"نواقض الإسلام"

لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب

منهج شيخ الإسلام فيها، وتنبيهات مهمة حولها

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإنَّ دعوةَ شيخِ الإسلامِ المجدِّدِ الإمامِ محمدِ بنِ عبدِالوهاب رحمه الله تعالى دعوةٍ تجديديةٍ رفعَ اللهُ بها منارَ التوحيد والسنة، ونشرَ بها العلمَ، وطهَّر بها الجزيرةَ العربيةَ من كثيرٍ من شعاراتٍ الوثنيِّة والجاهليِّة، وأحيا الله بها رسـومَ الشريعة، ولكلِّ داعيةٍ مصلحٍ من يعارضُه من شياطينِ الجنِّ والإنسِ، يعادونَه، ويشكِّكون في دعوتِه، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 112]، ولم تَسلَم دعوةُ شيخِ الإسلام محمد بن عبدالوهاب من خصومةِ أهلِ الباطل، وهذه سنةٌ كونية في كلِّ من جاء بالحق، كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بما جاءه، فقال: إن قومك سيخرجوك، قال: أو مخرجيَّ هُم؟ قال: نعم، «إنَّه لم يأتِ أحدٌ بمثلِ ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يـومك أنْصـُرك نصـراً مؤزراً»، فاشتدَّ حَنَق الخصوم وعدوانهم لدعوة شيخ الإسلام في حياتِه وبعد مماتِه إلى اليوم، وقابلوها بصنوفِ الحروبِ العَقَدية والاجتماعية والنَّفسية بل والحروب السياسية إلى استباحةِ الدماء والتشريد والقتل يقول شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في رسالته إلى أهل المغرب كما في "الدرر" (1/ 87): «فهذا هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا، وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم؛ وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع السلف».

ومن أبرزِ الأبوابِ التي خاصم فيها المشركون والمبطلون لدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب: باب «التكفير» واتهموه بتهمٍ هو منها براء، بيدَ أنَّ الإمام محمد بن عبدالوهاب من أعدل العلماء في باب التكفير، ولم يكفّر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلا بما أجـمـع عليه العلماء، وقد صنّف غيره وكفّر بما هو دون ما تكلم فيه الإمام بكثير، ومن قرأ كتاب "ألفاظ الكفر" لبدر الرشيد الحنفي، و"الإعلام بقواطع الإسلام" لابن حجر الهيتمي، وما قرره العلماء في كتب الفقه وأحكام المرتد، من الكثير من المكفرات القولية والعملية والقلبية مما هي أضعافُ أضعافِ ما ذكره شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في «نواقض الإسلام» فكيف تقام الدنيا ولا تقعد أمام من لم يكفّر إلا بعشرة نواقض مجموعة في ثلثي الورقة الواحدة! ويُتهم بالخروج والتكفير، ويحجبون الناس بتلبيسهم وتدليسهم ما ذكره العلماء في أبواب حكم المرتد، وكتب قواطع الإسلام ونواقضه من مئات موجبات التكفير؟ كلُّ هذا من البغي والصدّ عن دين الله تعالى، وسنن الأئمة المضلين الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته منهم.

و"نواقض الإسلام العشرة" التي صنّفها الإمام محمد بن عبدالوهاب عليها مدار ما تكلم عنه الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في كلّ مصنفاته، وجمعها في تلك الورقة لِمَا بيّن في آخر رسالته حيث قال: «وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا»، وهي مذكورة في مواطن من الدرر السنية أولها في (2/362-363) وغيرها.

فيجمع بين هذه النواقض أربعة أمور:

[1] الإجـمـاع؛ فليس فيما ذكر منها إلا وهو محلُّ إجماع بين العلماء، وكلُّ ما فيه منقول من كلام من قبله من العلماء كالقاضي عياض وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم ممن تكلم في أبواب الردة، ولم يمتحن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى أحداً في مسألة اختلف أهل العلم في التكفير بها، بله أن يكفّر بها.

قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في رسالته لعبدالرحمن بن ربيعة –"الدرر" (10/ 62)-: «فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل "باب حكم المرتد" في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله; منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في "الإقناع" على ردته; ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب، فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني».

وسُئل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، عما يقاتل عليه؟ وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب - "الدرر" (1/ 102)-: «أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها. والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان، وأيضا: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر».

ويقول -"الدرر" (1/ 264)-: «وهذه الأنواع التي ذكرنا أننا نكفر من فعلها قد أجمع العلماء كلهم من جميع أهل المذاهب على كفر من فعلها، وهذه كتب أهل العلم، من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، موجودة ولله الحمد والمنة».

ويقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن في نقد جماعة غلو في باب التكفير، وزعموا أنهم على عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -"الدرر" (1/ 466)-: «فزعموا أولا: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر».

[2] الكُلِّية، فهي تأصيليِّة، فكلُّ ناقض منها يضم تحته العديد من الصور، فهي بمثابة قواعد محلها محل اتفاق لا تقبل النقض والتبديل من حيث التأصيل، وما يأتي وراء ذلك من فروع المسائل، وإيقاع الحكم على الأعيان باب آخر.

أما ما ذكره بعضهم هداه الله وأصلح حاله- بأن ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "النواقض" وفي غيرها من مؤلفاته إنما هي «عبارات في سياقاتها ولا تُجعل كالقرآن الصالح في كلِّ زمان» وهذا كلام موهمٌ قد يمرُّ من تحته مقاصدُ سيئة، حيث لم يقل أحدٌ أن كلام محمد بن عبدالوهاب أو غيره من العلماء كالقرآن! ولكنَّ الذي يُجزم به أن الحق الذي ينطق به الإمام محمد بن عبدالوهاب وكلّ صاحب حقٍّ -قبله أو بعده- صالحٌ لكلِّ زمانٍ، فالحقُّ لا يعودُ باطِلاً، كما أنَّ الباطل باطل لا يصير حقا.

نعم؛ تنزيل الكلام على الوقائع والأعيان قد يختلف الحال فيه من زمان إلى زمان، ومن شخصٍ إلى آخر، لا لاختلاف في الحقِّ وتقريره، ولكن الاختلاف في تطبيقه وإيقاعه على القضية.

[3] كـثـرة الـوقـوع، لما كان منتشراً في الجزيرة العربية وما جاورها، وهذا مما شهد به الكثير من أهل السير والأخبار والتراجم، قبل عصر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ومن عاصره ومن جاء بعده، حيث ذكروا صوراً خطيرة مما يقع فيه الناس في أمصارهم من الشركيات والبدع والخرافات، ولكلِّ زمانٍ أحواله، وفي كل مكانٍ لأهله ديانة يدينون بها، وعاداتٍ يسيرون عليها، وقد ذكر أهل التاريخ والأخبار في الديار النجدية والحجاز واليمن والأحساء ونحوه من صور الشركيات والبدع الشيء الكثير، مع ما هو منتشر بأكثر منه في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ولا ينفي وقوعها وجود العلم، ولا العلماء، وما يزعمه البعض أن هناك من أهل السنة من يزعم أن نجداً لم يكن فيها علماء لم يصدق ولم يُصب، بل كان فيها علماء، ومن أهل الفقه والتحقيق في مذهب الإمام أحمد وغيره، ولكنّهم ما بين مقصّر في معرفة حقيقة لا إله إلا الله، وما بين خائفٍ من إظهار ما يعرفه من دين الله تعالى، وما قرأه في الكتب التي يجمعها كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في بعض رسائله- وما بين صاحب هوى أضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فكتم ما أوجب الله تعالى بيانه من دين الله، وحرّف وبدّل، وهم أكثر خصوم شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، فقد جرت عادة العوام على التسليم لدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وقبولها كما بينه شيخ الإسلام في مواطن، وأنهم كانوا يقولون لعلماء الضلال: «إذا كان هذا هو الحق، فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله؟ فتعذروا: إنكم ما سألتمونا، قالوا: وإن لم نسألكم، كيف نشرك بالله عندكم، ولا تنصحونا؟» "الدرر السنية" (10/ 12).

ولكن أشدَّ حروب الإمام العلمية كانت مع أدعياء العلم كابن سحيم وغيره، حيث قاموا مقام رجلٍ واحد، بالتشكيك في دعوته، وتصحيح دين المشـركين، والدفاع عنهم، لما كانوا يحصلونه من أموال من العوام الطغام بالبدع والشركيات والطلاسم التي يكتبونها لهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام في ردّه على سليمان بن سحيم ومن شابهه.

[4] عِـظـم الخـطـر، لظهورها وانتشارها، وكثرة دعوة أهل الباطل لها، وما فيها من الكفر بالله تعالى المخرج من الملة، المبيح للدم والمال.

ولا يريد بذلك شيخ الإسلام حصر النواقض، وإنما يريد ما سبق ذكره من الخطورة وكثرة الوقوع، وإلا فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى غير هذه النواقض عند ذكره لأنواع النفاق الاعتقادي ، وهي : «1- تكذيب الرسول، 2- أو تكذيب بعض ما جاء به، 3- أو بغض الرسول، 4- أو بغض بعض ما جاء به الرسول، 5- أو المسرة بانخفاض دين الرسول، 6- أو الكراهة بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم».

فهذه ستة لم تُذكر على هذا التفصيل في نواقض الإسلام، وهي منها وقد ذكرتها في شرحي للنواقض، كما قد جمع بينها وبين العشر النواقض الشيخ حمد بن عتيق عليه رحمة الله في كتابه "سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك "، وضمها حتى صارت أربعة عشر ناقضاً.

وقد ذكر بعضهم أن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب كتب هذه النواقض «جـوابـاً» لطلب سليمان بن سحيم ووالده! وأنَّهما طلبا تأييد كلامه بما في كتاب "الاقناع" للحجاوي! فقام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب بكتابة هذه الرسالة كجوابٍ عن طلبهما! وذكر أن هذا أمر قصّر فيه كلّ من شرحها! وأن مما يؤسف له أن أكثر من قرأها وعلّق عليها لا يعرف حقيقة الرسالة وسببها!

وكلّ هذا مما لا أعلم عليه دليلا واضحاً في كلام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ولا كلام من جاء من بعده من الأئمة الأعلام، بل الواقع على خلاف ذلك، والموجود في رسالة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب لسليمان بن سحيم أن الأخير ذكر بأنه ووالده زعما بأنهما لن يأخذا بما جاء به الإمام محمد بن عبدالوهاب، وأنهما لن يخرجا عما في الاقناع! فقال الشيخ كما في الدرر السنية (10/ 35)-: «لكن تقولان نعرف كلام صاحب "الإقناع" وأمثاله، وأنا أذكر لك كلام صاحب الإقناع، أنه مكفرك، ومكفر أباك، في غير موضع من كتابه» ثم ذكر ستة نواقض مما ذكره صاحب "الاقناع"، وهي من رسالته «نواقض الإسلام».

وليس فيه أنهما طلبا من شيخ الإسلام أن يذكر لهما ما في "الاقناع" وهما أهل علمٍ بما فيه، ولكنّهم على سنن أهل الشرك والضلال في كتم الحق، وتزيين الباطل، فلم يكن سليمان بن سحيم ووالده ممن لا دراية لهما بالعلم ومذهب الإمام أحمد، وكذلك كثير من خصومه عليه رحمة الله تعالى، ومنهم من يحفظ كتب المذهب ويقتنيها أشد وأكثر من الإمام محمد بن عبدالوهاب، يقول شيخ الإسلام عن حال خصومه ومعرفتهم في بعض رسائله "الدرر" (10/ 65)-: «فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله».

 وابن سحيم كان من أعرف الناس بما عند الإمام من كلام، بل كان يوافقه في كثير، ثم تنكب عن السبيل، حتى قال شيخ الإسلام كما في الدرر- (10/ 31) : «أنكم تقرون، أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق، وأنت تشهد به ليلا ونهارا، وإن جحدت هذا، شهد عليك الرجال والنساء» ويقول: «أن النـاس فيما مضـى، عبدوا الطواغيت، عبادة ملأت الأرض، بهذا الذي تقر أنه من الشرك، ينخونهم ويندبونهم، ويجعلونها وسائط، وأنت وأبوك تقولان: نعرف هذا، ولكن ما سألونا؛ فإذا كنتما تعرفانه، كيف يحل لكما أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو ما سألوكما؟» ثم ذكر الإمام في الرسالة نفسها عدة وقائع جرت لابن سحيم وافق فيها كلام الإمام واستحسنه ببينةِ خطّه والشهود، فكلّ هذا يدل على أن ابن سحيم ليس بحاجة إلى أن يطلب كلام صاحب "الإقناع".

ومثل ابن سحيم مع شركه وضلاله، ومعاداته للتوحيد أحقر من أن يوصف بالمشيخة، حتى صرّح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب بتكفيره في مواطن.  

وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى لم يكن يخفي عن الناس عامة -ولا خصومه خاصة- أن ما جاء به هو ما ذكره العلماء من قبل، بل كان يبين لهم كثيراً أنه متبع غير مبتدع، ويحتج على المخالفين بكلام العلماء من قبل، وذكر في أكثر من موطن أن ما يذكره من المكفرات موجود فيما ذكره العلماء في أبواب حكم المرتد، ويراسل العلماء بكلام أئمتهم في كلّ مذهب، كما في "الدرر السنية" (2/ 50) ومواطن أخرى.

وهذا مما قوّى حجة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب على خصومه، وأن ما جاء به لم يكن بدعاً من القول، وإنما هو ما نصّ عليه أهل العلم من قبل، فلما رأى أصحاب الأهواء هذا منه اشتدت منهم الخصومة والعداء لأنه أتى بنيانهم من القواعد فخرّ به على رؤوسهم، كما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "الفتوى الحموية" لما نقل كلام أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين سقطوا في أيديهم، وكشف للناس مخالفة خصومه لما عليه السلف الصالح، فانقلبوا عليه بأشد الظلم والعدوان.

فتبيّن مما تقدم أنَّ رسالة "نواقض الإسلام" رسالةٌ مفردةٌ صنّفها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى على عادته في كثيرٍ من رسائلِهِ على وجه الاختصار، ولم تكن جواباً لطلبِ أحد حتى يقال بأن معرفة ذلك يفيد تقييد مراد شيخ الإسلام بقضية معينة، أو سببٍ معين، بل كلّ ما فيها معمول به، يجب اعتقاده، لأنه مما أجمع عليه العلماء، فهو إنما أورد «موجبات الكفر» عند العلماء بإجماعهم، ولم يتكلم عن «التكفير» فهذا باب آخر، والكلام فيه موقوف على معرفة حقيقة الأحوال، وتفاصيل الوقائع.

وقبل ختم الكلام أذكر بعض التنبيهات:

التنبيه الأول:

أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى من أعدل الناس طريقةً في باب التكفير وموجباته، فهو وسط بين إفراط الخوارج وتفريط المرجئة، وكلامه في ذلك كثير، لا يتسع المقام لنقله، فإذا عُلم ذلك، فكتاب "نواقض الإسلام" إنما صنّفه الإمام رحمه الله تعالى يريد بذلك ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه كفر، فلا يستدرك عليه بأن من صور ما ذكره من النواقض ما لا يُعد كفراً عند العلماء، كأن يقال: بأنه ذكر الشرك، والشرك منه ما يخرج من الملة، ومنه ما هو أصغر لا يخرج من الملة، وأنه ذكر الموالاة؛ ومنها ما يخرج من الملة ومنها ما ليس كذلك، وكذلك عدم تكفير المشركين، ونحو ذلك، فلا يستدرك على الإمام بمثل هذه الاستدراكات، لأن الإمام إنما مراده ما يوجب التكفير من ذلك كلّه، ويخرج من الإسلام وينقضه، وما تفرّع من ذلك أو استُثني مما لا يخرج عن الإسلام فليس هذا من مراد الشيخ، ولا مراد من ذكر هذه النواقض من أهل العلم قبله.

يقال هذا لأن هناك جماعة ممن تصدروا لشرح هذه الرسالة، فأفسدوا مراد الشيخ بكثرة الاستدراكات، والاستثناءات، وكأنَّ شيخ الإسلام أخطأ في قوله حتى صار بحاجة إلى أمثال تلك الاستدراكات والاستثناءات! وما مراد الشيخ إلا ذكر ما يوجب الكفر كما هي عادة العلماء في أبواب حكم المرتد من كتب الفقه.

التنبيه الثاني:

أن استدلال بعض خوارج العصر ببعض كلام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى لا يشينه، ولا يتحمل تبعة ضلالهم، فغيرهم من أهل العلم والتحقيق والتدقيق، والفقه والنظر، ولزوم السنة من هم أشد منهم عناية بمؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ومع ذلك لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه أولئك الخوارج، فدلّ ذلك على أنهم إنما زلّوا بانحراف أهوائهم، وسوء فهم لكلام الإمام عليه رحمة الله تعالى، ولا غرابة وهم قد ضلوا وانحرفوا عن السبيل، واستحلوا دماء المسلمين بما تشابه من كلام الله تعالى المحكم المبين الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]، فكيف بكلام المخلوق الضعيف الذي يعتريه التقصير وسوء التعبير؟!

وأولئك الخوارج يعلمون بأن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى على غير طريقتهم وعقيدتهم، ولكن لما لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى من رتبة علية، ولما هو مشهور عنه من تحقيق مسائل الكفر والإيمان، والرد على أهل الإرجاء، أخذوا كثيراً من كلامه في هذا الباب واحتجوا به على ما يوافق أهواءهم، وقد تكلمتُ عن هذه الفرية في أكثر من مقالٍ ولقاء إعلامي، فلتراجع.

التنبيه الثالث:

يقول بعضهم: «إن كُتب الردود والأجوبة لا يؤخذ منها الاعتقاد والأصول» وهذا كلام ليس له نظام ولا قيمة، وغالب أهم كتب الاعتقاد عند أئمة السلف إنما كانت ردوداً وأجوبة، كـ: "الرد على الجهمية" للإمام أحمد، و"الرد على بشر المريسي" للدارمي، والردود على الجهمية للبخاري والدارمي وابن أبي حاتم وغيرهم، وأكثر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، فكلُّها كُتب ردود، وجوابات أسئلة، وكل ما ذكروه مما أجمع عليه العلماء من حيث «التأصيل» فهو عامٌ صالح لكل زمان، ولكن من حيث «التَّطبيق» و«التنزيل» على الوقائع والأعيان فبحسب موافقة الحال من عدمها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في "مجموع الفتاوى" (28/ 213): «وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت حكمها في نظيرها. فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية؛ بل تركوها ترك المعرض؛ لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم».

والخلاصة؛ الواجب على طالب العلم أن يعرف منازل العلماء ومكاناتهم، وأن يصون العلم عن أن يكون غرضاً لخدمة أهل الضلال، أو أن يكون مائدة تحت أيادي الزنادقة وأهل الجهل للنقد والاستدراك! فصاحب الحق يبين الحق بيان القائم بالحجة، الصادع بالأمر، المبين لشرع الله تعالى، ولا يكون في صدره حرج مما أنزل الله تعالى، فدين الله تعالى أعلى وأنزه من أن يكون سلعة تُعرض على سفلة القوم لينقدوه ويبدوا آراءهم تجاهه!

هذا والله أعلم؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

بدر بن علي بن طامي العتيبي

الرياض

السبت  24 محرم 1442


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني