من المختارات لكم (143): براءة الإمام البخاري من عقيدة الكرابيسي وابن كلاب.

 

تنبيه مهم

حول براءة الإمام البخاري رحمه الله تعالى

من عقيدة الكرابيسي وابن كلاب

وبيان وهم الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذلك

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذه أسطرٌ قد كنتُ كتبتها عام 1426 هـ ضمن كتابي "منحة الباري بختم صحيح البخاري" بعد قراءته كاملاً على شيخنا العلامة عبدالقيوم الرحماني رحمه الله تعالى.

ومضمون هذه الأسطر الكلام عن براءة الإمام البخاري رحمه الله تعالى من بعض ما نٌسب إليه من عقائد منحرفة، وهو منها براء، ومن ذلك ما زعمه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ومما قلت فيه:  

تعرّض الإمام البخاري رحمه الله تعالى إلى صنوف من الاتهامات الباطلة ، والجرح المردود، ويتنوع ذلك بتنوع نوع المتهِم وهواه، فقد نيل منه في ديانته وروايته! وما أصاب من شنأ الإمام، والله موعده وإياهم يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وقد خاب من حمل ظلما.

ومن ذلك ما وقع في عصره من فتنة اتهامه بالقول باللفظ في القرآن، وما حصل بينه وبين الإمام محمد بن يحيى الذهلي، وظهر لكل منصف صِدق البخاري رحمه الله تعالى وبراءته من القول باللفظ في القرآن.

والمراد ببراءته وبراءة أهل السنة من القول باللفظ في القرآن: أي براءتهم من القول بأن القرآن المتلو بالألسن مخلوق، ولا خلاف بين أهل السنة أن حركات اللسان، وصوت القارئ خلق من خلق الله تعالى[1].

والبخاري رحمه الله تعالى بريء من القول بأن المتلو مخلوق، وكلامه في ذم الجهمية والرد عليهم أشهر من أن يذكر، و "كتابه خلق أفعال العباد" أكبر دليل، و أوثق حجة على بطلان قول من نسب إليه القول باللفظ في القرآن الكريم، فضلاً على ظهور بطلان من نسبه إلى القول بخلق القرآن، فإن تعجب بعد ذلك فاعجب إلى مسلمة بن القاسم صاحب "الصلة" عندما ينسب القول بخلق القرآن إلى الإمام البخار!![2]، وهذا من أبطل الباطل، ولم يسبقه إليه أحد، ولو كان عصرّيه لقيل بأن الأمر قد خفي عليه، كيف وهو متأخر عنه بسنواتٍ عديدة؟!

و"الصحيح الجامع" وما فيه من أبواب تدل على سلامة عقيدة الإمام في مسائل الصفات عموماً وفي كلام الله تعالى على وجه الخصوص، فلا يُدرى كيف يُغفل هذا كله وتنسب إليه هذه الفرية الباطلة؟!

وكذا من غريب ما يُنسب إلى الإمام البخاري رحمه الله: قول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [1/ 293] : «مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيّ فِي جَمِيع مَا يُورِدهُ مِنْ تَفْسِير الْغَرِيب إِنَّمَا يَنْقُلهُ عَنْ أَهْل ذَلِكَ الْفَنّ كَأَبِي عُبَيْدَة وَالنَّضْر بْن شُمَيْلٍ وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمْ , وَأَمَّا الْمَبَاحِث الْفِقْهِيَّة فَغَالِبهَا مُسْتَمَدَّة لَهُ مِنْ الشَّافِعِيّ وَأَبِي عُبَيْدَة وَأَمْثَالهمَا, وَأَمَّا الْمَسَائِل الْكَلَامِيَّة فَأَكْثَرهَا مِنْ الْكَرَابِيسِيّ وَابْن كِلَاب وَنَحْوهمَا».

قلت: عفا الله عن الحافظ فما أصاب، بل وما أبعده عن الصواب، فليس في صحيح البخاري من الأصول الكلامية شيءٌ ولله الحمد، بل هو مبني على الأثر، وتسمية علم التوحيد بعلم الكلام من إحداث أهل الأهواء وعباراتهم، والبخاري رحمه الله تعالى من أبعد الناس عن عقيدة ابن كلاب والكرابيسي، وقد اشتهر عن السلف ذم هذين الرجلين ، والتحذير منهما ، ولا علاقة للبخاري رحمه الله تعالى بهما  ولا بعقيدتهما[3]، بل عقيدته واضحة صريحة في كتابه "الصحيح" و "خلق أفعال العباد" ويخالف هذين في سائر مسائل الصفات التي خالفوا فيها أهل السنة وأخصهما ابن كلاب، والكرابيسي أقرب منه إلى السنة، ومع ذلك فقد اشتد نكير أهل السنة عليه وعلى رأسهم الإمام أحمد، بسبب مقالته الفاسدة في اللفظ.

ولما ذكر الإمام البخاري رحمه الله عقيدته التي لقي عليها أهل العلم ممن أخذ عنهم في العديد من البلدان لم يذكر ابن كلاب ولا الكرابيسي منهم .

قال أبو القاسم اللالكائي رحمه الله تعالى في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" [1/173] : «أخبرنا أحمد بن محمد بن حفص الهروي قال حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سلمة قال حدثنا أبو الحسين محمد بن عمران بن موسى الجرجاني قال سمعت أبا محمد عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن البخاري - بالشاش – يقول سمعت أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري يقول : لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم : أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة و واسط وبغداد والشام ومصر ، لقيتهم كرات قرناً بعد قرن ثم قرناً بعد قرنٍ ، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستٍ وأربعين سنة ، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد ، بالحجاز ستة أعوام ، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خرسان منهم : ..... » ثم ذكر منهم ما يزيد على أربعين عالماً من أئمة أهل السنة على رأسهم : نعيم بن حماد، وأحمدَ بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر عبدالله وعثمان ابنا أبي شيبة، وأبا عاصم النبيل، وأبا عبيد القاسم بن سلام، وغيرهم، ولم يذكر بينهم: ابن كلاّب أو الكرابيسي .

وفي كتابه "خلق أفعال العباد" وهو من أشهر الكتب التي تبين عقيدة الإمام البخاري رحمه الله تعالى، لم يذكر ابن كلاب في خبرٍ أو أنهى إليه خبراً! وكذا الحسين الكرابيسي، فكيف يكون هذا وذاك عمدته في الأصول ولا ينقل عنهما؟

وفي كتابه "الصحيح" في آخره في كتاب التوحيد: ذكر أبواباً عدة في إثبات حقيقة كلام الله تعالى ، وأنه يتكلم به متى شاء ، وهذا خلاف ما عليه قول ابن كلاب في الصفات الاختيارية.

انتهى المراد نقله من كتابي "منحة الباري" وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" [12/364-365 ] وما بعدها في بحث قيّم للغاية.

[2] انظر "تهذيب التهذيب" [9/47 ] وأجاد الحافظ في الدفاع عن الإمام البخاري ونقد اتهامات مسلمة بن قاسم .

[3] ويشبه أن يكون الحافظ ابن حجر أخذ هذا القول من الحافظ ابن منده، حيث زعم أن الإمام البخاري صحب الكرابيسي، وعنه أخذ مسألة اللفظ! انظر "تهذيب التهذيب" [2/311 ] وهذا غير صحيح، ولم يكن الإمام البخاري يتكلم في مسألة اللفظ من قبل عام [250هـ] زمن امتحانه بهذه المسألة، وقد أدرك من حياة الكرابيسي سنين عديدة، ولو تأثر به فيها لقال بها قبل ذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني