من المختارات لكم (144): مهازل .... في ميادين العلم

 

مهازل .... في ميادين العلم!

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فالناظر في الميدان العلمي اليوم، ومن يحضر فيه من طلاب العلم تحقيقاً أو تنميقاً يجد الكثير من عجائب القول والعمل بما لا يُعهد مثله من السالفين الراسخين، ولا هو من طرائق اللاحقين الذين اتبعوهم بإحسان إلى هذا الحين، بـ"مهازل" لا تليق بمن نزل في ميدان العلم وتحصيله، ولستُ أعني أدعياء العلم من أهل الزيغ والضلالة، فأولئك ما هم فيه من الانحراف عن السبيل، والزيغ والتضليل؛ كافٍ في بيان فسادهم وكسادهم، فهم فيما دون ذلك من المخالفة أولى وأحرى، وإنما كلامي عمن ينتسبون إلى مسلك السلف، وتعظيم السنة، ومحبة الأئمة الأُلى، ثم ترى من مهازلهم ما يشوه الدعوة السلفية، ويكدِّر صفو جموع أهلها، ويفتح الباب لأعداء السنة للنيل من أتباع السلف الصالح، بما ينبغي على كل عاقلٍ ممن يُسمع له ويُتّبع أن يبالغ في الجهد لإصلاح هذا الخلل، وهذا من صدق النصيحة لكل مسلم، وأولى عامة المسلمين بالنصح هم أهل السنة، ومن تلك المهازل:

المهزلة الأولى

تقدّم الأصاغر على الأكابر!

وهذا من أعظم أسباب الانحلال العلمي، والمهازل التي يراها الناظر في الميدان العلمي، وهذا التقدّم له سببان:

أحدهما: تخلّف بعض الأكابر عن الواجب عليهم من بيان دين الله تعالى، وإيضاح شرعه، وفصل القول فيما يقع فيه الخلاف، والرد على المخالفين، وإصلاح ذات البين، وكم من مسألة وقعت بين طلاب العلم السلفيين سُفكت فيها دماء الأخوة الإسلامية، وانتهكت فيها حُرمات الدين والعرض –كل ذلك- بسبب تأخر بعض الأكابر عن الواجب عليهم من البيان، ولو تكلموا بالحق وقضوا به، وأقروا الصواب ونصروه، وخالفوا الخطأ وردوه، ونصحوا الطلاب، وأصلحوا ذات بينهم لما وقع أكثر ما نراه اليوم من النزاعات التي حلقت الحقوق الأخوية بين أهل السنة.

والثاني: تهوّر بعض الطلاب الأصاغر وغرورهم، وما أصيبوا به من الكِبر والتعالم، حتى صار بعضهم لا يرى للعلماء رتبة، ولا يحسب لهم مكانة، ويرى بأنه أولى بالحق منهم، حتى تجاوز الحال ببعضهم إلى تخطي صفوف الأموات بله الأحياء فقط! فصارت تخطئة الشافعي وأحمد بن حنبل وابن قدامة وابن تيمية عنده أسهل من بلع ريقه! فكيف يرى مكانة بعد ذلك لعلماء عصره؟

المهزلة الثانية

تقديم الكلام في الرجال على الكلام في الإيمان وصالح الأعمال!

حتى صار شعاراً بارزاً للسلفيين اليوم؛ بتغليب الكلام في الرجال والطوائف أكثر من كلامهم في "شرح الإسلام" و"تأصيل الإيمان" و "تربية النفس" و"فقه الدين" و"أصول الأدب" بل لا يكاد أولئك القوم يعدون الرجل سلفياً حتى يتكلم في الرجال والطوائف، وما يريدون بالرجال إلا من يخالفون، ولا من الطوائف إلا من يذمون، وإلا فلا يرونه سلفياً! بينما أصل الدين أولى بالاهتمام به، والامتحان من أجله، ثم الكلام في الرجال والطوائف يأتي تبعاً.

إن الصراع داخل البيت السلفي اليوم على أشدّه سباباً وشتاماً، وتحذيراً وهجراً وتنفيراً، وتمزقاً وتصنيفاً بسبب الخلاف في "أحكام الرجال" حتى صار حال الرجل مدحاً وقدحاً أولى بالاهتمام من بيان التوحيد، ونشر السنة، وتعليم الناس ما يجب عليهم من أمر دينهم، وصار الكلام في هذا وذاك عند أولئك الهازلين يوشك أن يقارن قطعيَّة الألوهية، والحجة الرسالية، والإيمان بالغيب واليوم الآخر! بل ربما يُدنى من خالفهم في تلك الأصول بسبب موافقتهم للقدح في ذاك! ويُقصى من يوافقهم في تلك الأصول بسبب مخالفتهم فيه! حتى رأيتُ كثيراً منهم من يركن إلى الملاحدة وأهل الفسق والفجور لموافقتهم له في القدح في فلان، وينشر لهم، ويُثني عليهم، ولا ينكر بعضهم على بعض ذلك! بينما من يدين بمثل دينه، وعلى أصول اعتقاده حين يخالفه في الموقف ممن يقدح فيه يطرح له كل حقٍ، ويُلحق به كلّ بلية، والله المستعان.

المهزلة الثالثة

حصر السلفية في مسائل وأفراد الرجال

وهذا من عظيم الابتلاء، وفاسد الآراء، حينما تُحصر السلفية في مسائل معينة، وغالبا لا تكون من مسائل الأصول وإنما هي من مسائل الاجتهاد ومحل النظر والأخذ والرد، وإن كانت من مسائل الأصول يكون اهتمام بعضهم بها اهتماما يجر من ورائه آفتين عظيمتين:

إحداهما: إهمال ما هو أهم منها من أصول الاعتقاد، وقواعد التوحيد، فتجد أكثر كلامه عن تلكم المسألة، ويهمل ما هو أهم من ذلك وأولى.

والثانية: حصر الموازنة بين الناس عليها، فمن وافقه فيها فهو المقرّب، المثنى عليه، المنشور له، ولو كان من أخبث الخليقة في باقي أمره، كما رأينا من بعضهم تقريب الزنادقة والملاحدة ودعاة التحرر من الدين لموافقتهم له في بعض مسائل الدين تبعاً لأهوائهم لا تديناً بدين الله تعالى، ثم هو مع من خالفه في تلك المسألة مهما كان لديه من دين وفضلٍ يجعله أبعد الأبعدين، وهذا من قبيح التطفيف.

وكذلك حصر السلفية على آحاد الأفراد، وليس من أولئك أئمة الإسلام الذي يمتحن أهل الضلال بهم، لأن الطعن فيهم طعن في الدين عادة، ولا يطعن فيهم إلا بما هم عليه من الدين، أما عامة الأفراد فقد تقع الخصومة بينهم وبين عامة الناس في كثير من شؤون الدنيا والدين، فترى بعض السفهاء يجعل شيخه، ومقدّمه، ميزاناً للسلفية، فما المذموم إلا من ذمه، ولا الممدوح إلا من مدحه! وربما جعلوا صغيرهم حَكَما على الكبير المعظَّم من غيرهم! فيرجعون إلى ذلك الصغير في حال ذاك، فإن أثنى عليه قبلوه، وإن ذمه تركوه.

ومن ذلك مهازل "التزكيات" وما ابتدعه أهل "التبيّن!" باعتقاد التهمة في كل الناس حتى يزكيهم أفرادٌ منهم، ولو جاءوا بتزكياتِ غيرهم من الأكابر ما قبلوه، وربما نزكوهم بأنهم لا دراية ولا خبرة لهم بأحوال الرجال!

المهزلة الرابعة

ضيق العطن من كل خلاف!

والخلاف سنة كونية قدرية واقعة بين الناس لا محالة، وقد وقع الخلاف بين خيرة خلق الله تعالى بعد الأنبياء، كما وقع بين الصحابة الكثير من صور الخلاف، وما وراء ذلك من الغضب، وربما "بعض" الهجر، ولكن لم يقطعوا كافة حقوق الأخوة والصحبة، ولم يطلقوا الهجر، ولا بغوا في التحذير، ولا قسموا الناس في كل مسألة إما أن تكونوا معنا أو لا، كما هو الواقع اليوم من بعض السفهاء، من ضيق عطنهم من كلّ خلاف، حتى لا تكاد تجد في قلوبهم مساحة للخلاف أبداً، وما إن يخالفهم آخر فيما ذهبوا إليه إلا ووسعوا الفجوة، وألزموه بما لا يلزم، وجعلوا هذا منه: محاربة للسنة، ومناكفة للعلماء، بل ربما جعلوه خروجاً عن جماعة المسلمين وإمامهم، ومن نظر في سير الناس من قبلهم يجد بين الكثير منهم ما لا يحصيه إلا الله من صور الخلاف، ومع ذلك بقي الدين بين الهجر والبراءة فيما يستحق ذلك على الوجه الصحيح، كما بقيت الصلة والتعافي والأخوة بينهم وبين آخرين مع من يستحقه على الوجه الصحيح.

المهزلة الخامسة

التوبة يريدونها لهم لا لله!

فتراهم يمتحنون خلق الله تعالى بما لا يجوز الامتحان به، فإن ظهر من رجل مقالة في يوم من الأيام، أو أثنى على صاحب بدعة، أو جالس منحرفاً، لا يكفيهم ما يظهر لهم بعد ذلك من صلاح دينه، وسلامة معتقده، مهما قدّم من علمٍ ونصحٍ وإرشادٍ، بل يرونه هو المذموم المردود حتى يعلن البراءة من ماضيه، ويلعن أوله وتاليه! ويتأولون قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] على غير تأويله، بينما الآية تعني محل ما يشتبه ويحتاج إلى بيان، أما من ظهر حسن دينه، وسلامة منهجه، واعتدال طريقته، فهذا إن لم يكن كله بياناً لصحة توبته ورجوعه، فأي بيان بعد ذلك؟

وجرت العادة من القوم أن سقفهم يرتفع مع كل مطلب، ومطالبهم تزيد مع كل استجابة! فمن وقع تحت عدوانهم حتى لو نطق بما يريدون تراهم يولدون لهم مطالب أُخَر يظهر للناظر فيها أن مرادهم محض الإهانة والإذلال لا غير، أو ربط ربقة الحزبية في عنقه حتى ينصاع لكل ما يريدون ويطلبون!

ومن أسوأ طرائقهم عدم الاكتفاء بما يعلم من صدق الديانة حتى يتكلم في فرقة معينة لا يعرفون من الفرق الضالة إلا هي! حتى لو تكلم في ألف فرقةٍ غيرها، ونقد أصول الفرق الضالة، لا يكفيهم ذلك إلا بالنطق بما يريدون، وهذه من أعظم المهازل التي تحمل على سوء الظن بهم، وأن مرادهم إنما هو الفرقة والصد عن دين الله لا غير.

المهزلة السادسة

الخلط بين القرائن والبينات

فيتعاملون مع القرائن الظنية كأنها بينات على ضلال المرء وتبديعه، والقرائن لا يؤاخذ بها، وإنما يعتضد بها مع غيرها، ثم لئن كانت القرائن محلها محل ذم وانتقاد، فإن المعاقبة بها لا يجوز أن تكون كعقوبة من ثبتت عليه الجريمة بالبينة، فليس "كل" من يجالس الكافر والمبتدع يكون كافراً ولا مبتدعاً ولو عاتبناه وأنكرنا عليه، ويسيئون تطبيق الآثار المنقولة عن السلف في مجالسة أهل البدع، حيث يُعملونها ويتركون ما لا يحصيه إلا الله من وقائع أخرى وقعت من السلف فيها ما هو ضد ذلك من مجالستهم، والأخذ عنهم، والثناء عليهم، بل ربما الدفاع عنهم عند الحاجة! وليس هذا تناقضا من السلف، وإنما هو بيان بأن مدار ذلك كله على مصالح تطلب، ومفاسد تدفع، وموازنة بين هذه وتلك، ومقاصد شرعية صحيحة، يعرفها من عرف الحكمة في هجر كعب بن مالك رضي الله عنه، وصلة عبدالله بن أُبي بن أبي سلول، وأن الهجر هناك والصلة هناك صوابٌ وعدلٌ وحكمة.

المهزلة السابعة

الحكم بالتسلسل!

وهذه من الآفات وأقبح المهازل، بل ربما تجاوز بعضهم "الهجر والتبديع" بالتسلسل في "التكفير" كما وقعت فيه طائفة في زمنٍ قريب! وهذا مما يؤسف له، أن يجالس السني صاحب بدعة أو يثني عليه بأي سبب كان –جهلاً بحاله أو تأولاً لمقاله أو خطأً وتقصيراً أو اضطراراً أو لأي مصلحة يراها- فيهجر السني وليكن زيداً من الناس، وليت الأمر يقف عند ذلك، بل يهجر من يجالس زيداً أو يدافع عنه أو يعتذر له! ثم يهجر من يجالس أولئك أو ينشر لهم، وهكذا! وهذه –وايم الله- جاهلية، وحزبية مقيتة، وعلى خلاف ما عليه السلف الصالح في مواقفهم مع الرجال، حيث أن العلم بأحوال كثير منهم لا يبلغ رتبة القطعية، ولا الإجماع الذي لا تجوز مخالفته، فجروا من وراء ذلك التحزيب والتصنيف، والإضرار بخلق الله تعالى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المهزلة الثامنة

الانتقائية في إصدار الأحكام!

وهذا من أشهر علامات فساد النية، وخبث الطوية، وأكبر الدلائل على أن مراد القوم إنما هو "التشفي والتشهي" و"البغي والعدوان" ودافعه "الحسد وحظوظ النفس!" وذلك أن كثيراً منهم ينتقد على بعض الصلحاء "زلة" أو "مقالةً" عثر بها، أو "مجالسة صاحب بدعة" أو "الثناء" على مخالف، ثم يخرجونه من السنة والسلفية، ويلحقون به كلّ بلية، ويضللونه ويضللون من لا يضلله ولا يهجره! ثم في الوقت نفسه تجد أن من معظميهم، ومن يزعمون اتباعه، والأخذ بقوله: من وقع في مثل ما وقع فيه ذاك وأشد! فهم ما بين مخذول ساكت، أو مدافع ملفّق للأعذار، والحال واحد بل ربما أشد.

المهزلة التاسعة

التحزيب والتصنيف

وقد تكلمتُ عن هذه الآفة –وما سبق وما يأتي- في مقالات ومواطن عدة، حتى صار التحزيب والتصنيف علامة للقوم! وكلهم على أصلٍ عقديٍّ واحد، ويرجعون إلى أئمة أوحدين، ويتفقون في الكتب التي يدرسونها، وما إن يحصل بينهم اختلاف إلا ويتولد من ورائه طائفة تلو طائفة! حتى بلغت في قليل عدّي وإحصائي من عام 1411 إلى عام 1445 أكثر من خمسة عشر حزباً وتصنيفاً بمهازل والله تَضحك الثكالى والأيتام! وهم جميعاً يعلمون أن شعار أهل السنة "الجماعة" وشعار أهل البدعة "الفرقة" فابتلوا والعياذ بالله بسنن أهل الضلالة، ووقعوا في التحزب والتصنيف بغير حق، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المهزلة العاشرة

العقوبة تقدّر بقدرها!

من الذي ما ساء قط؟      ومن له الحُسنى فقط؟

كل بني آدم خطّاء، وكل الناس رادّ ومردود عليه إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فلا ضير أن ترد على المخالف، ولا حرج أن تخطّئ من أخطأ، ولا بأس أن تهجر وتحذر، ولكن:

لا تتجاوز في العقوبة، ولا تبغي في القصاص، فالله تعالى أمر بالعدل، وحث على القسط، وحرّم الظلم، واليوم: لو تأملتم تعامل بعض أولئك القوم مع من يخطئ ويخالف، تسأل نفسك سؤالاً: لو كان ذلك كافراً بالله العظيم، بماذا سيعاقبونه فوق ما عاقبوا به ذلك المسلم المخطئ -ولو كان خطؤه بدعة من البدع؟!- فتراهم يطلقون كلّ عقوبة فيه: هجراً وتحذيراً وتنفيراً وتأليباً وإضراراً وسعايةً وتعطيلاً لمصالحه وإفساداً لدنياه وحشواً لكافة الوسائل بالذم والكلام فيه، أكثر من الكلام في أكفر خلق الله تعالى، وأشدهم خطراً على دينهم، وهذا منهم مزيج من الجهل والظلم والبغي والحسد ونعوذ بالله ممن هذه حالهم.

ختاماً

تلك عشرة كاملة، آثرتُ فيها الإيجاز الشديد، وجردتها عن الكثير من الاستدلال والاستشهاد، إذ مرادي إنما هو مجرد الإشارة إلى تلك المهازل، ولفت نظر العقلاء إليها، والتحذير منها، والحث على اجتنابها.

        فإنْ تنجُ منها تنجو من ذي عظيمةٍ

                       وإلا فــــــــــــــإني لا أخــــــــــــــالَك نـــــــاجــــــــــيــــــــــــا

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كتبه

بدر بن علي بن طامي العتيبي

الاثنين 12 صفر 1445

الرياض


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني