من المختارات لكم (72): وما زالوا يعمهون!

بسم الله الرحمن الرحيم
مسلسل: ما زالوا يعمهون!
إلى أين يا حاتم العوني؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد وقفت على ما كتبه حاتم العوني في مقال له عنوانه: (مسلسل ما زالوا يكذبون.. فشيخ الإسلام ابن تيمية قد أفتى بجواز القتل حرقاً).
وعنوان مقاله يناقض ما جاء في مضمونه، ففي المضمون الكلام عن (القصاص) والعنوان ينص على (القتل) ومن قال بالتحريق في (القصاص) لا يعني أنه أجازه في عموم (القتل!) فالعوني يجهل هذا كما هي جهالات داعش الخارجية في استدلالهم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ولكن لأن حاتم العوني عادته منقادة في الجرأة على أهل العلم والسنة في الأصول والأحكام وعلوم الآلة! تحت اللاسقفية! وأنه لا أحد فوق سقف النقد! فيبيح لنفسه الجرأة على الرجالات والثوابت كيفما أراد! حتى بلغ ثوابت الملة، وقواعد الشريعة، فهو لا يعرف معنى (العبادة) التي من أجلها خلق الله الخلق، كما بينته في كتابي "الإفادة بتحقيق معنى العبادة" ولا يدري ما حقيقة القدر! وأوابد أُخر!
وليست هذه بأولى شغب أهل الخبال على قمم الجبال وفي ميادين الرجال! فلي مقال سابق ذكرت فيه بعض تطاولات الخَبَل على الجَبَل! وفيه بيان مبلغ رقة الدين، وسخف العقل.
وما نقلته داعش عن شيخ الإسلام ابن تيمية حمه الله تعالى لم يكن في التحريق وإنما كان في التمثيل (قصاصاً) وهم أنزلوه على التحريق، فبغض النظر عن تحريفهم للنص، فالمراد هو قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وإن مثل الكفار بالمسلمين فالمثلة حق لهم فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر ولهم تركها، والصبر أفضل وهذا حيث لا يكون في التمثيل السائغ لهم دعاء إلى الإيمان وحرز لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد ولم تكن القضية في أحد كذلك) [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 5/ 540] فكلام شيخ الإسلام جاء في عموم التمثيل بالكفار وداعش الخارجية أنزلوها على مسألة التحريق خاصة، والكلام في هذا لم يأتِ على وجه الإطلاق وإنما مقيداً بالمعاقبة بالمثل فيما لو أن الكفار مثلوا بالمسلمين، فيمثل بهم كما مثلوا بنا جزاءً وفاقاً.
ثم يأتي بعد ذلك الكلام عن حدود المثلية في القصاص! وهذه مسألة يعلمها من لديه أدنى قراءة في فقه الأئمة الأربعة، وهي الأصل والعدل الموافقة للكتاب والسنة أن يكون القصاص بالمثل، وإنما اتجه العلماء للسيف لأنه آمن من الحيف والتجاوز، وإلا فقد دق النبي رأس يهوديٍّ قتل جارية بين حجرين لأنه فعل بها ذلك، فكان قصاصاً مماثلاً.
ولكن القصاص بالمثل لا يصح إلا بشرطين اثنين:
الأول: أن يؤمن الحيف.
الثاني: أن لا يكون القتل كان بمحرم، فلو زنى بامرأة حتى ماتت لا تفعل فيه الفاحشة حتى يموت، ولو سقى انساناً خمراً حتى مات لا يسقى خمراً مثلها، وهكذا.
وتبقى مسألة (القصاص) بالحرق، هل يجوز أم لا؟
وفرق بين هذا وبين (القتل) بالحرق عموماً، الذي سلكته داعش الخارجية لأن هذا منهم لم يكن قصاصاً! وإنما (مُثْلة ونكاية) برجلٍ مرتد! فيما يزعمون، عقوبة له وتشريداً لمن خلفه، وهذا من غيّهم وضلالهم كما سيأتي.
ولم ينكر أحدٌ يعتبر قولُه أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار -كغيره من العلماء- جواز (القصاص) بالحرق، لأن الآية تنص على القصاص بالمثل كما قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45] وسنة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت بمثل ذلك كما تقدم الإشارة إليه.
وفي النصوص التي نقلها العوني بيان ذلك، ولم يكن هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وحده، فقد ذكر شيخ الإسلام -كما نقله العوني-  أنه قول أهل المدينة والشافعي وأحمد، وقال العوني: (فجعل هذا القول من خصائص ابن تيمية ظلم له) هذا من الإنصاف، ولكن فات العوني أن يذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى بأن ترك المعاقبة بالمثل هو الأفضل كما تقدم من قوله رحمه الله تعالى: (والصبر أفضل) ورعاية للمصالح: (دعاء إلى الإيمان وحرز لهم عن العدوان).
وقال رحمه الله تعالى: (فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا إن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} {واصبر وما صبرك إلا بالله} قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا) فأنزل الله هذه الآية..). [مجموع الفتاوى: 28/ 314].
فهذا واضح للمنصف بأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وإن أجاز العقوبة بالمثل -ولو بالحرق بالنار- إلا إنه يرى بأن الأفضل الصبر وعدم فعل ذلك، وخاصة عندما تكون المصلحة راجحة بالتأليف للإسلام، وكف العدوان.
 ولكنه حاول أن يجعل الخلاف في هذه المسألة غير سائغ بدعوى أنه مجرد اجتهاد في مقابلة النص الصريح: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) وهذا غير صحيح، بل هو خلاف سائغ، ولم يكن قول من قال بالعقوبة بالنار ناتجاً عن اجتهاد مجرد، بل لديهم أدلة من السنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم يطول المقام في بسطها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم عن تاركي الصلاة مع الجماعة: «لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزما من حطب، ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، فأحرقها عليهم» متفق عليه، ولم يكن عزوفه عن فعل ذلك إلا بسبب من في البيوت من النساء والذرية، لا المنع من العقوبة بالتحريق أصلاً، فلو كانت لا تجوز ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً، وكذلك ما اتفق عليه عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق، سواء كان فيها نساء وذرية، أو لم يكن؛ لما جاء «أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نصب المنجنيق على أهل الطائف».
فهذه وغيرها- أدلة تسيغ الخلاف، وتجعل لكلٍّ قولٍ منها وجهاً سائغاً، والحديث المستدل به في معارضة ذلك، متأول عندهم بأنه في العذاب على الكفر والمعاصي لا القصاص فإن لفظ العذاب ظاهر في ذلك، [ينظر: الذخيرة للقرافي: 12/ 450] وقال في المغني (8/ 304): حملوا الحديث الأول على غير القصاص في المحرّق.
فالخلاف سائغ في المسألة، ولا يعني ذلك تسويغ عمل الخوارج من وجوه:
أولها: أنه قتلوا مسلماً دمه معصوم، ولم تثبت عليه جريمة القتل ببينة شرعية.
والثاني: إن كان القاتل هو جيشه وسربه لم يجز أن يُقتل هو قصاصاً وهو لم يقتل، وقد قال تعالى: {ولا تز وازرة وزر أخرى}.
والثالث: أنه وإن كان كافراً فلم يجز التمثيل به بالحرق في أرض الحرب -وإن حرق من المسلمين من حرق- رعاية لكرامة الإسلام وحرمته، ولذلك كان من صور نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القتل بالنار أنهم كانوا في أرض حرب، فعن حمزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية وقال له: (إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار) فوليت فناداني، فرجعت إليه فقال: (إن وجدتم فلانا فاقتلوه، ولا تحرقوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار).
وهؤلاء الدواعش الخوارج فعلوا ذلك وأشاعوه وأذاعوه وشوهوا بذلك صورة الإسلام، ونفروا الناس عنه، وهم ضلّالٌ منحرفون ولو صلوا بين الركن والمقام! فكيف وهم قد طغوا وبغوا، وأفسدوا في البلاد والعباد؟
والرابع: أن من شروط النكاية والتمثيل بالأعداء أن لا تتسبب في إلحاق الضرر بالمسلمين، ومثل هذا العام سوف يجر الكثير من الولايات على الأبرياء في العراق وخارجها بسبب اشتعال الحروب، وانتشار الدمار، وهذا واقع، ولهذا رأى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الكفار وإن مثلوا بنا وكانت المصلحة راجحة لكف العدوان عن المسلمين فإنه لا يمثّل بهم، ويفعل بهم مثل ما فعلوا بنا، وسبق نقل كلامه.
وقبل الختام يبقى السؤال المهم:
ما دام أن هذا القول لم يكن من أفراد قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فما هو الدافع الأهم للعوني في تحرير هذا المقال في مثل هذا الوقت خصوصاً؟ فكم من قول مزيف ينسب إلى عالم إمام ولم يكن قاله، وقول حق ينفى عن عالمٍ إمام وهو قد قاله، ومع ذلك ما جاء العوني بمقالٍ مثله يحرر الخلاف ونسبة الأقوال؟!
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف 19 ربيع الآخر 1436هـ


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني