من المختارات لكم (104): السلفية دينٌ شامل وليست انتقائية

"السلفية" دينٌ شامل وليست انتقائية
رد على الكاتب الصحفي في جريدة الرياض: فهد الأحمدي؛ وفّقه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قرأت ما كتبه الأخ فهد الأحمدي في صحيفة الرياض في عددها الصادر رقم (17480) وتاريخ (26 رجب 1437هـ) تحت عنوان: (هل نحن سلفيون فعلاً؟) وطرح عدة تساؤلات بعد أن قرر مقدمة بأن الناس اليوم ليسوا سلفيين! لعدة أسباب ذكرها!
ثم ذكر في مقاله سُنناً يوحي كلامه بأنها كانت غائبة أو مغيَّبة عن المجتمع، وهي من الأمور المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالح الذين تنسب إليهم (السلفية) وقد يكون للكاتب المذكور وفقه الله للخير مقاصد من وراء السطور، وما انتقاه من سنن لن أُجهد النفس في طلبها وضرب الأخماس في الأسداس في مراده منها، ولكنّ بين يدي ما سأعلق به على مقاله المذكور أقدّم مقدمة أهم وأهم من كثير من القول، وهي أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] أي خذوا الإسلام كلّه، والسلفية هي الصورة التامة الصافية الجميلة للإسلام، بعيداً عن تنطع الغلاة وتفلّت الجفاة، فكذلك ينبغي أن نكون سلفيين في كلّ شيء، في العقيدة والأحكام وسائر العبادات والآداب، بل حتى في سياسة الدول، وقيادة الجيوش، وفي الاقتصاد والاعلام، وفي شؤون المرأة، وفي جميع نواحي الحياة، فإن كنا كذلك فنحن السلفيون حقاً وصدقا، وأما إن كنّا نأخذ من موروث السلفي ما (نظنّه) أنه يوافق ما تهواه أنفسنا ونترك الباقي! فنحن هنا لسنا سلفيين، وإنما (أصحاب أهواء) كالذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49].
فلم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سماع المعازف، ولا حلق اللحى، ولا إسبال الثياب، ولا تعرّي النساء، ولا التحايل على الشرع، وهذا من دين إمام السلف محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا مثال لما عليه المنوال، وعلى ذلك يقاس، فمفهوم السلف عام شامل، ومن قواعد الاستدلال عند أهل العلم والتحقيق أن (يجمع كلّ ما في المعنى) بمعنى أن لا تجتزأ الأدلة، ويطار بالدليل الواحد مع ترك بقية الأدلة (في الباب) والجمع بينها، والنظر في دَلائل استنباط الأحكام من أدلتها بالطرق الصحيحة، ومعرفة العام ومخصصاته، والمطلق ومقيداته، والمجمل ومبيِّناتِه، والصحيح من الضعيف، ثم يكون بعد ذلك الحكم، ولذلك جمع أهل العلم في كتبهم في "الصحاح" و"السنن" أحاديث كلّ باب، ويذكرون ما يوافق مذهبهم وما لا يوافقه، ويجيبون على ما لم يذهبوا إليه بالأجوبة العلمية، وحلّ الإشكالات حولها.
إذا تبين هذا الأمر، فالكاتب وفّقه الله، ذكر:
[1] ذكر لعب الأحباش داخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يشاهد، وعائشة رضي الله عنها تنظر إليهم من ورائه، ثم قال: (هل نجرؤ على فعل ذلك في أي من مساجدنا ناهيك عن إدخال زوجاتنا للمشاهدة).
فيقال: مع شرعية دخول النساء للمساجد للصلاة، إلا أن عائشة رضي الله عنها لم تكن دخلت المسجد في تلك اللحظة، فكانت في حجرتها، وتنظر من وراء النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بابها، كما هو صريح الخبر الوارد في ذلك، ولم يكن الأمر لعموم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المسلمين، وإنما كان هذا من عارض الأحوال، فلو عرض لرجال أن يلعبوا يوم عيد أو حين قدوم من سفر بالسلاح في المسجد جاز ذلك، لا أن المساجد تتخذ مسارح للرقص واللعب في كلّ حين! وكذلك لو أن رجلا مرّ بأهله لمثل أولئك ونظر وإياهم إليه جاز ذلك، لا أن يدعى الرجال والنساء إلى حفل رقص رجال ويخالط بعضهم بعضاً، فهذا لم يقل به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والسلف الصالح، إن كنا سلفيين نلتزم مذهبهم.
[2] وكذلك ما ذكره الكاتب وفقه الله من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (يا عائشة ما كان معكم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) فالمراد به ضرب الدف خاصة، ولا يجوز بغيره، وهذا ثابت بالسنة النبوية الصحيحة، فهذا مشروع غير ممنوع، وليس من اللهو المباح: ضرب المعازف والموسيقى، والتعرّي في اللباس، واختلاط الرجال بالنساء، فكل هذا حرام لا يجوز، وليس من دين السلف الصالح في شيء.
[3] وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الجماعة في أوقات متفاوته، فإن هذا ورد ولا شك، ولكنّ الأصل في صلاة الجماعة والأفضل الإبكار بها، لحديث أفضل الأعمال: (الصلاة لوقتها) أي في أول وقتها، ولما في تعجيلها من المسابقة للخير، والإسراع إليه، ولكن جاز تأخيرها عن أول مقتها لمصلحة شرعية ومن ذلك تأخير صلاة العشاء لفضيلة آخر الليل أول من أوله، وكذلك الإبراد بالظهر رفقاً بالمصلين، ومثل هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولولاة أمر المسلمين ولأصحاب الأعذار أن يعملوا به.
وقول الكاتب بأن النبي صلى الله عليه وسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العصر إلى إحمرار الغسق! هذا لم يثبت به حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت عنه الذم لمن آخر العصر إلى اصفرار الشمس، وأنها صلاة المنافقين، فكيف يجوز تأخيرها حتى حمرة الغسق؟!
[4] وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة التراويح منفرداً، فهذا كان منه بلا شك، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقرّ صلاتها جماعة، ولم يتركها إلا للسبب الذي ذكره خشية أن تُفرض على المسلمين، ومع ذلك فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته جماعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرفَ كُتِبَ له قيامُ ليلة) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسنٌ صحيح.
فدل هذا على شرعية صلاة التراويح جماعة، ولهذا كانت شعاراً لأهل الإسلام والسنة خلافاً لأهل البدع، وأما عدد ركعاتها، فالأصل فيه أنه مثنى مثنى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر ركعة، وثلاثة عشر ركعة، وصلى الصحابة رضي الله عنهم أكثر من ذلك، وكلّه مشروع، ومن دين السلف الصالح، ومن ذلك صلاة عشرين ركعة! وهذا قد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكما أن اتباع عمر بن الخطاب في صنيعه مع الشفاء كما سيأتي- تراه من السلفية، فكذلك صلاة عشرين ركعة عدّه من السلفية أيضاً ولا تنكره.
[5] أما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى عورات المسلمين وتتبعها، فهذا هو الأصل الشرعي، وليس من تتبع العورات عموم (التفتيش) لمصلحة شرعية، مثل حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم فتّش أسفل الطعام ليكتشف أن أسفله أصابه الماء! وقال: (من غشنا ليس منا) وما حصل أن فتش علي بن أبي طالب المرأة التي سافرت بسرّ النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة، ونظائر هذا كثير؛ فلا حرج عن وجود المصلحة الشرعية، والحجة المرضية أن يتتبع ولي أمر المسلمين ونوّابه من ظنوا به سوءً ومكيدة بالمسلمين، وعلى ذلك العمل إلى اليوم في الجهات الحكومية المرضية كـ(المباحث العامة) و(هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وغيرهم.
[6] وأما عمل النساء في الأسواق، فلم يكن شرعاً ممنوعاً أن تتجر المرأة، وأن تبيع وتشتري، ولكن الممنوع هو أن تختلي بالرجال وتخالطهم فيما لا يؤمن عليها الفتنة خلال ذلك، ولن أقول كقولك: (كما تفعل جداتنا في أسواقنا حتى وقت قريب) بل لا يزال العمل عليه في الأسواق الشعبية من بسط بعض النساء مع النساء للبيع! وهذا حينما يؤمن عليهن ومنهن الفتنة، فالأمر موكول بما يراه ولي أمر المسلمين من مصلحة ومفسدة.
[7] وأما ذكره الكاتب وفقه الله بأن عمر بن الخطاب ولّى الشفاء العدوية بعض أمر السوق، فهذا الخبر لم يثبت، وإن ذكره بعض أهل السير والأخبار، بل بالغ ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (3/ 482) وقال: (وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح؛ فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث).
ومع ذلك فلو صحّ؛ فهو إنما كان ذلك في حالات عارضة كما ذكر ابن عبدالبر وغيره لما ذكروا خبرها بأن عمر بن الخطاب (ربما) ولاها شيئاً من أمر السوق، وليست هذه ولاية عامة، وإنما هي عارضة خلاف الغالب، ولهذا قال القاضي المجيلدي في "التيسير" (ص43): (إن الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، وتلك القضية من الندور بمكان) وقال: (ولعله في أمر خاص يتعلق بأمور النسوة).
أما الولاية العامة فلا يصح ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري في صحيحه.
[8] وأما تعليم المرأة فلم يعارض فيه عالمٌ معتبر، وحق المرأة على وليّها تعليمها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم نساء الصحابة، ويسألنه ويجيبهن، وعائشة من أكثر الصحابة فتوى، فتعليم المرأة لم ينكره عالمٌ معتبر، وإنما الذي حصل في زمنٍ مضى منع بعض أهل العلم من (التحاقهن بالمدارس النظامية) خشية الفتنة لأنه أمرٌ جديدٌ عليهم لم يعرفوا طريقة التعليم النسائي، حتى ضمنوا أنه يسير على جادة سليمة، بعيدة عن الاختلاط بالرجال، والمناهج المنحرفة، فأطبق الجميع على قبوله، ولو فسد التعليم، وتفشى الاختلاط، لعاد القول إلى قول من منع، وكانت الفتوى على عدم جواز هذا النوع من التعليم إن كان فيه فتنة لها في دينها وأخلاقها.
وأما قيادتها للسيارة فهذا لا يجوز، وليس من السلفية في شيء ذلك، ولا علاقة لقيادة المراة للسيارة بتعليم المرأة فلا أدري ما وجه إقحام هذه المسألة هنا، وقيادة المرأة للسيارة لم تكن سلفية الأصل! بل سلفهن من النساء قبل الإسلام وبعده أنه لم تكن تزاحم الرجال، وتجتنب ما هو من خصائص الرجال، وكانت تركب الدواب (محمولة منقولة) لا (قائدة) تتنقل بها، وتعرض نفسها للمخاطر، فقيادتها للسيارة عن السلفية بمعزل، والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف 2 شعبان 1437هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني