من المختارات لكم (113): الإرجاء الماكر (2)

الإرجاء الماكر (2)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أما بعد:
فقد كنتُ تكلمتُ بإيجازٍ عن بعضِ أساليب المرجئةِ المعاصرةِ في مكرِهم بأهلِ السنةِ، وكيفَ نَقلوا فِئامَاً من أهلِ السنةِ مِن السنةِ إلى البدعةِ، وَمِن مذهبِ أهلِ الأثَرِ إلى مزالِق المرجئةِ، وكيفَ علّقوا عَلى صدورِ تَصْريحاتِهم «منصوص» أهلِ السنة في «معنى» الإيمانِ ثم لما جاءوا إلى «التطبيق» ناقضوا «حقيقة» الإيمان، وأخرجوا العمل منه، وأن الإيمان «يصح بالقول قول القلب واللسان- فقط!» بل وحاربوا أهل السنة وزادوا من الظلم والبغي والعدوان، وكيلِ السب والشتم، والتعنيف والتصنيف! ووصفوهم بأسماء سموها، ومذاهب اختلقوها، والله موعدهم وهو حسبنا الله ونعم الوكيل.
وما الصراع إلا بين أهل السنة وخصومهم من «المرجئة» و«الخوارج» لا غير! ولن يُغضبني تصنيفهم وذمهم ما لم يكن ذمهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولدينِهِ ولأئمةِ أهل السنةِ، وما عدا ذلك من الأسماء فكلّها تحت القدم، فليختلقوا من الأسماء والألقاب والتصنيفات والأحزاب ما يريدون!
فما كلّ كلبٍ نابحٍ يستفزني         ولا كلّ ما طن الذبابُ أراعُ
ونزولي في سوق هؤلاء للسبِّ والشتم أعدّه من سافلِ الأخلاق، وسبلِ أهل العناد والشقاق، وديني وعقلي يزجراني عن ميدانهم، والقرب من أضعانهم.
روى الآجري (5/ 2550) عن زكريا بن يحيى قال: سمعت أبا بكر بن عياش , وقال له رجل: يا أبا بكر من السني؟ فقال: «السُّنِّي الذي إذا ذُكِرَت الأهواء لم يغضب لشيء منها».
وإني في هذه الأسطر أتكلم عن طليعة أخرى من طلائع كشف مكر المرجئة المعاصرة، فأقول:
مما يجدر معرفته أمران مهمان:
الأول: أن قول أهل السنة: «وقولنا في السنة كذا .. ونقول القرآن كلام الله غير مخلوف .. ونقول الميزان حق .. ونقول الإيمان قول وعمل .. ونقول .. ».
ليس مرادهم مجرد «القول والنطق» وإنما المراد «الاعتقاد والإقرار» فقد ينطق المنافق بالإيمان وأصوله وهو كافر في الباطن «غير مؤمنٍ ولا معتقدٍ ولا مقرٍّ» بذلك.
فلا يكفي أن يقول القائل: «القرآن كلام الله غير مخلوق» ثم نجده يقول: بأن الذي غير مخلوق هو الكلام النفسي، وأما الذي سمعه جبريل من الله، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسمعه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وكُتب في المصاحف، وحُفظ في الصدور: «مخلوق» عُبِّر أو حُكِيَ به عما تكلم الله به في نفسه! كما هو حال متأخري الأشاعرة! فهذا جهميٌّ ولو قال وكتب: «القرآن كلام الله غير مخلوق!» وهو يعتقد تلك العقيدة الفاسدة.
وكذلك لا يكفي أن يقول القائل: «الإيمان قولٌ وعملٌ» ثم يثبت أن هناك مؤمنٌ «يصح» إطلاق اسم الإيمان عليه، بمجرد «قوله الكلمة بقلبه ولسانه» مع «إعراضه» عن «العمل كله» هذا غير ممكن في الشرع بعد نزول الفرائض ووجوبها، إلا فيمن تعذر عليه القيام بها لمانع من الموانع الصحيحة.
فالذين يصححون الإيمان بالقول دون العمل، هم في الحقيقة أرجأوا العمل عن الإيمان ولو قالوا في تقريراتهم العقدية: «الإيمان قولٌ وعمل» فإن هذا منهم مجرد قول! لا يفيدهم حتى يعتقدوا أنه لا إيمان إلا بعمل، ولا مؤمن إلا بعمل.
إذا عُلم ما تقدم فمن الجهلِ حينما يُنتقد قول أحدٍ من الناس ثم يأتي المتعصبون وعصبتُهم بأنه قد قال كذا وكذا في كتاب كذا وكذا؟ فهذا الكلام لا يفيد، فها هم كثيرٌ من المشركين في هذا الزمان! يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرن، ويقرأون ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاك نَسْتَعِينُ﴾ ويقولون: لا إله إلا الله، وهم بالله مشركون، ولما قالوا مناقضون.
وتناقض أولئك بين القول والتطبيق والتحقيق؛ قد يكون لاضطراب أصلهم، وقد يكون لتنكبهم عن السبيل، وقد يكون من الخطإ الذي تُلتمس معاذيره السائغة، فيُرجع بمذهبه إلى ما يُظن به من سليم قوله إن كان من أهل السنة، مع نفي الخطأ والبراءة منه، ولكنّ المؤلم أن كثيراً من أولئك المتعصبين المقلِّدين الخالِفين المتخلِّفين: زلّت بهم الأقدام، وطاشت منهم الأقلام، واضطربت بهم الأفهام: فقضوا بالخطإ على الصواب! ولبسوا بالباطل على الحق! وانتصروا لزلل المتبوعين، وصححوا مذهبهم، وجعلوه «من» قول أهل السنة! بل آل بهم الأمر إلى جعل هذا القول الفاسد: هو قول أهل السنة! وحرَّفوا ما نقل عن الأئمة من أجل سلامة المتبوع! كما سيأتي معنا من جعلهم للعمل الذي هو ركن في الإيمان: «عمل القلب» فقط! لكي يصححوا مذهب من يعظمون في إخراج عمل الجوارح من الإيمان! فحملهم الانتصار لهذا المذهب المنحرف إلى تحريف مراد أهل السنة، وإخراج «عمل الجوارح» من قولهم: «الإيمان قول وعمل!» فتأمل؟ وسيأتي تفصيل هذا إن شاء الله.
الأمر الثاني: إذا قال العلماء: «الإيمان قولٌ وعمل».
فمرادهم:
[1] قول القلب: وهو الاقرار والتصديق.
[2] قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين اللتين يُدخل بهما للإسلام، ولا يراد بذلك الطاعات الأخرى التي آلتها اللسان كالتهليل والتحميد والتكبير وسائر الذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذا كلّه من عمل الجوارح الظاهرة، واللسان من الجوارح الظاهرة.
ومن المكر الإرجائي هنا:
اعتبار النطق الإقراري بالشهادتين «عملٌ!» يُجزي عن سائر العمل، وأن من قال فقد عمل! وهو ما أنكره الأئمة على شبابة بن سوار.
روى الخلال في "السنة" (3/ 571) عن أبي بكر الأثرم، قال: سمعت أبا عبدالله، وقيل له: شبابة، أي شيء تقول فيه؟ فقال: «شبابة كان يدعو إلى الإرجاء» قال: «وقد حكي عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت أحداً عن مثله» قال: «قال شبابة: إذا قال فقد عمل، قال: الإيمان قول وعمل كما يقولون: فإذا قال فقد عمل بجارحته -أي بلسانه- فقد عمل بلسانه حين تكلم» ثم قال أبو عبدالله: «هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول به، ولا بلغني».
وللعلم والفائدة: حكى أبو زرعة الرازي أن شبابة بن سوار تاب من هذا القول.
والمقصود أن قول اللسان المراد به: الاقرار والإشهاد باللسان بالشهادتين وما لا يصح الإيمان إلا به.
و«قول» القلب واللسان: لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما الزيادة والنقصان فيما يأتي، لأنهما مجرد إقرار قلبي ولفظي، ظاهر وباطن، وهو إذعان واستسلام، وهو الإسلام، ولهذا قال غير واحد من السلف: الإسلام الكلمة! كما روى الحميدي (1/ 188) وعبدالله بن أحمد في "السنة" (1/ 351) والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 507) والخلال (3/ 607) عن الزهري رحمه الله تعالى أنه قال: «الإسلام الكلمة، وأن الإيمان العمل» تفسيراً لقول الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) [الحجرات: 14].
واستحسن هذا القول من الزهري: الإمام أحمد؛ كما رواه عنه الخلال (4/ 12).
وروى الخلال (4/ 14) عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عن الإسلام، والإيمان؟ فقال: «الإيمان قول وعمل، والإسلام الإقرار».
وروى اللالكائي (4/ 895) عن ابن أبي ذئب قوله: «الإسلام القول، والإيمان العمل».
وهذا معنى ما بوّب البخاري في "صحيحه" (1/ 14): «باب من قال إن الإيمان هو العمل».
وليس المراد من ذلك إخراج إقرار القلب واللسان من الإيمان، ولكن المراد أن الإيمان لا «يتحقق ويصح» بمجرد الإقرار القلبي، ولا بالإقرار النطقي؛ فمجرد هذا استسلام لله بالكلمة، ويبقى ما «يصح» به إيمانه و«يحققه» من الاستسلام لله بـ: «العمل: عمل القلب والجوارح» وهو الإيمان الذي فيه «الزيادة» و«النقص» ويطرأ عليه «الاستثناء».
أما مجرد القول باللسان، والاقرار بالقلب، فلا مجال للزيادة والنقص فيهما، ولا للاستثناء!
روى الخلال في "السنة" (3/ 601) عن الإمام أحمد قال: «لو كان القول كما تقول المرجئة: إن الإيمان قول، ثم استثنى بعد على القول لكان هذا قبيحا، أن تقول: لا إله إلا الله إن شاء الله، ولكن الاستثناء على العمل».
فلا يقال لمن أراد أن يدخل في الإسلام: «قل لا إله إلا الله إن شاء الله!» ويقبُح أن يقول القائل: «أنا أعتقد أن لا إله إلا الله إن شاء الله!».
فلا مجال للاستثناء في هذا الشطر من الإيمان، وإنما الاستثناء فيما كان عُرضةً للزيادة والنقص من أعمال القلب والجوارح.
ولذلك كان ترك الاستثناء في الإيمان من أول علامات الإرجاء! لأنهم قصروا الإيمان على «القول» وهذا لا يصلح فيه الاستثناء، فدل على أن «العمل» عندهم خارجٌ الإيمان، فلو أقرَّ بأنَّ العمل داخلٌ في الإيمان قريناً للقول للزمه الاستثناء.
وعلى ذلك:
فمن يًصحح الإيمان بدون عمل! لا يقول بزيادة الإيمان ونقصانه ولو ذكر ذلك في التقريرات والتعاريف! لأن الإيمان «تمت صحته» عنده بـ: «القول» وأما «العمل» فكمالٌ كان الإيمان عنده- قد تمَّ بدونه أصلاً.
فعند من قال: الإيمان تتم صحته بالقول دون العمل: جبريل وأبو بكر، والبَرُّ كلُّهم- سواءٌ مع الفاجر في الإيمان! فالكل قد «قالوا!» فإيمانهم متساوٍ، وما العمل إلا كمال! إن أُتي فبِهِ التفاضل، وإن لم يأتِ فلا يضر بالإيمان الذي به تُدخل الجنة، وسوف يدخلها ولو لم يأتِ من العمل بشيء!
وإذا كان الإيمان يصح بمجرد «القول» فإيمان السابقين الأولين وأصحاب اليمين مساوٍ لإيمان الذين يخرجون من النار ولم يعملوا خيراً قط، فكلهم جاءوا بأصل الإيمان، وهم سواء فيه! ويوضح هذا ما رواه الخلال "السنة" (3/ 588) عن صالحٍ، قال: سألت أبي، ما زيادته ونقصانه؟ قال: «زيادته العمل، ونقصانه ترك العمل، مثل تركه الصلاة، والزكاة، والحج، وأداء الفرائض، فهذا ينقص، ويزيد بالعمل» وقال: «إن كان قبل زيادته تاماً، فكيف يزيد التام، فكما يزيد كذا ينقص، وقد كان وكيع يقول: ترى إيمان الحجاج مثل إيمان أبي بكر وعمر رحمهما الله؟».
فأي قول أضل وأقبح من هذا القول؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموعة الرسائل والمسائل" (3/ 8): «المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية قالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية، فإن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمقربين والظالمين».
روى الخلال (3/598) عن عبدالرحمن بن مهدي قال: «أول الإرجاء ترك الاستثناء» ومن هنا جاء النكير من أهل السنة على من لم يستثنِ في الإيمان.
[3] عمل القلب: من الخوف والرجاء واليقين والمحبة والخشية والرغبة وغير ذلك من الأعمال القلبية.
[4] عمل الجوارح: من الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، وما يجري على اللِّسان من أعمال كالتهليل والتسبيح وسائر الذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة والتعليم وغير ذلك.
وفيي كلا العملين: فرضٌ لا يصح الإيمان إلا به، وكمالٌ مستحب، فمن جاء بالفرضِ كانَ من أصحاب اليمين، ومن زاد وجاء بالمستحبِ فهو من المقرَّبين السَّابقين. وينظر [مجموع الفتاوى: 7/ 190].
وهذا النوع من العمل عمل القلب والجوارح-:
(1) لا «تتم صحة» الإيمان إلا بجنسهما، وبدون ذلك لا إيمان، وهذا معنى قول أهل السنة: لا إيمان إلا بعمل.
(2) وفيهما عمل القلب والجوارح- تكون الزيادة والنقصان.
(3) ولأجلهما تواضع أهل السنة لله تعالى بالاستثناء، فلا أحد يستطيع أن يقول بأنه جاء بكل العمل؟
وروى الخلال في "السنة" (3/ 597) أن رجلاً جاء للإمام أحمد، فقال: قيل لي: أمؤمن أنت؟ قلت: نعم. هل علي في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر، فغضب أحمد، وقال: «هذا كلام الإرجاء، وقال الله عز وجل: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) [التوبة: 106] ، من هؤلاء؟» ثم قال أحمد: «أليس الإيمان قولاً وعملاً؟» قال الرجل: بلى، قال: «فجئنا بالقول؟» قال: نعم، قال: «فجئنا بالعمل؟» قال: لا، قال: «فكيف تعيب أن يقول إن شاء الله ويستثني؟».
وروى (3/ 597) أن أحمد بن أبي سريج ذكر أن الإمام أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة: «أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، فنحن مستثنون بالعمل».
وروى (3/ 597) عن أبي طالب، قال: سمعت أبا عبدالله، يقول: «لا نجد بُدَّاً من الاستثناء؛ لأنه إذا قال: أنا مؤمن؛ فقد جاء بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول».
ولذلك إن أردتم إفحام «المرجئة الماكرين» اليوم، اسألوهم:
هل الإيمان «يصح» بقول القلب واللسان فقط؟
فإن قالوا: «يصح» بذلك، وأن أقواماً يدخلون به الجنة ولم يعملوا خيراً قط، لا صلاة لهم ولا زكاة ولا حج ولا صيام .. وما العمل إلا «كمالٌ» إن أُتي به «كَمُلَ» الإيمان، وإلا بقي على «ما تمت به الصحة» أصلاً؛ وهو القول فقط -فيما يزعمون-.
ويقال: قد نادى قائل هذا على نفسه: بالإرجاء الصريح القبيح؛ الذي ذمّه أهل السنة ورأوا أنه أخطر من دين اليهود والنصارى، لما فيه تعطيل العمل؛ وهدم شرائع الإسلام، ومعاندة السنة!
روى الخلال في "السنة" (3/ 586) عن حنبل بن إسحاق بن حنبل، قال: قال الحميدي: «وأُخبرت أن قوما يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن، ما لم يكن جاحداً، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر الفروض واستقبال القبلة» فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسولهr، وفعل المسلمين، قال الله جل وعز: ﴿حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5] قال حنبل: قال أبو عبدالله؛ أو سمعته يقول: «من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به».
وروى الخلال (4/ 14) عن إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد ابن حنبل الإمام- عن من قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ سأله عن الإسلام , فقال له: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال نعم , فقال قائل: فإن لم يفعلوا الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مسلمون أيضا فقال: «هذا معاند للحديث».
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث جبريل عليه السلام: أعمالاً بها يقوم الإسلام، فمن قال بأن الإسلام يصح بدونها: فهو معاندٌ للحديثِ شاء أم أبي!
ونقل ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 23) عن سفيان بن عيينة أنه قال: «المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليسا سواء، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال: معصية، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر: هو كفر».
ونقل حرب عن إسحاق قال: «غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد، إذ هو مقر، فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة».
وقال الإمام الآجري في "الشريعة" (2/ 614): «فالأعمال رحمكم الله بالجوارح: تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله وبجوارحه: مثل الطهارة، والصلاة والزكاة، والصيام والحج والجهاد، وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا، ولم ينفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقا منه لإيمانه، وبالله التوفيق».
فإن قالوا: «يصح» بالقول وعمل القلب فقط!
يقال: ناقضتم مذهبكم الإرجائي في أنَّ الله يخرج أقواماً من النار صحّ لهم الإيمان بالقول فقط بدون عملٍ، لما جاء في أحاديث الشفاعة: «أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله» فإن صححتم هذا بدون عمل الجوارح، فكذلك يقال في عمل القلب! وأن أولئك الذين زعمتم دخولهم الجنة: لا يحبون الله، ولا يُبغضون الكفر والطاغوت، ولا يرجون الله ولا يخافونه، ولا يتوكلون عليه، وكذلك في سائر أعمال القلب الواجبة.
فإن قالوا: هذه أعمال قلبية لابدّ من وجودها!
قيل: كذلك يقال في أعمال الجوارح؛ هي لازمة للإيمان كلزوم أعمال القلوب، فالتفريق بين أعمال القلب وأعمال الجوارح تفريقٌ بمجرد التحكّم والهوى ولا دليل عليه، وصريح قول النبي صلى الله هل عليه وسلم في أنَّ الإسلام لا يقوم إلا على الصلاة والزكاة والصيام والحج، واعتبارها أركان الإسلام، أشهر وأصرح وأكثر من ركنية المحبة والخوف والرجاء وسائر أعمال القلوب.
ومن لم يعمل بجوارحه محالٌ أن يكون في قلبه عملٌ صحيح؛ ومن لا عمل في قلبه لن يكون إقراره صحيحاً مقبولاً مهما ادَّعاه، وهو من جنس إقرار المشركين بالإلهيات والنبوات والمعاد ومع ذلك ما صحّ منهم الإيمان لعدم إقرار اللسان، وعمل القلب والجوارح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص: 196): «فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب تبعه عمل من عمل القلب لا محالة لا يتصور أن ينفك عنه بل يتبعه الممكن من عمل الجوارح فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب علم أنه ليس بتصديق جازم فلا يكون إيمانا لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه لعارض من الأهواء كالكبر والحسد ونحو ذلك من أهواء النفس».
ثم قال في  "الفتاوى الكبرى" (5/ 244): «ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة لزم وجود الأفعال الظاهرة، فإن الإرادة الجازمة إذ اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله وأحبه محبة تامة امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه أو لخوف ونحوه لم يكن قادرا على النطق بهما».
ويراجع ما كتبته في كتابي "القول المناهض" وما فيه من بطلان صحة الإيمان الباطن مع عدم العمل الظاهر.
تــنـــبــيــه:
مرتبطٌ بالكلام السابق، وهو أنه مما جاء به المرجئة المعاصرون الماكرون؛ أنهم لما رأوا تظافر نصوص أهل السنة وأقوالهم على أن: «الإيمان قول وعملٌ».
قالوا: إنّ العمل الذي لا «يصحُّ» الإيمان إلا به هو عمل «القلب! » وأما أعمال الجوارح فهي «كمال»؟
وقد نصّ على ذلك غير واحدٍ منهم؛ منهم جاهلٌ عراقيٌّ يُسوّدُ الأوراق والردود بما فيه سواد وجهه! وإلا فهذا القول وهو الاقتصار على عمل القلب دون عمل الجوارح- هو قول جماهير المرجئة بلا خلاف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/ 543): «جماهير المرجئة على أن عمل القلب داخل في الإيمان كما نقله أهل المقالات عنهم منهم الأشعري..».
وقال في "مجموع الفتاوى" (7/ 195): «والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه.. » ثم ذكر بقية الطوائف.
وإثبات أعمال القلوب في حقيقة الإيمان يُلزمهم بإثبات أعمال الجوارح، سواء بسواء، قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (7/ 194): «والمرجئة: الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها؛ ولم يكن قولهم مثل قول جهم؛ فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها».
وقال في "مجموع الفتاوى" (7/ 554): «والمرجئة: أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان:
[1] فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضاً وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين.
[2] ومن قصد إخراج العمل الظاهر؛ قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن».
فتأمل كيف عدّ من يخرج العمل الظاهر ويبقي عمل الباطل من المرجئة، وكيف أن العمل الظاهر متلازم بالعمل الباطن لا ينفك أحدهما عن الآخر.
وقد نص غير واحدٍ من السلف على أن المراد بالعمل: عمل القلب والجوارح:
روى البيهقي في "القضاء والقدر" (ص: 329) عن الإمام محمد بن يحيى الذهلي قال:  السنة عندنا أن الإيمان , قول وعمل , يزيد وينقص , وهو قول أئمتنا مالك بن أنس , وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي , وسفيان بن سعيد الثوري , وسفيان بن عيينة الهلالي , وأن الأعمال والفرائض وأعمال الجوارح في طاعة الله أجمع من الإيمان.
وقال أبو عبيد في "الإيمان" (ص10) في قول أهل السنة: «الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب, وشهادة الألسنة وعمل الجوارح».
ونقل اللالكائي (1/ 203) عن أبي حاتم الرازي بما عليه اختيار أهل السنة قاطبة: «واختيارنا أن الإيمان قول وعمل , إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان».
وعند اللالكائي (4/931) قال إبراهيم بن خالد الكلبي عن الإيمان: «التصديق بالقلب والإقرار باللسان وعمل الجوارح».
وقال المزني في "شرح السنة" (ص77): «والإيمان قول وعمل مع اعتقاده بالجنان قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان وهما سيان ونظامان وقرينان لا نفرق بينهما لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان».
وقال الآجري في "الشريعة" (2/ 611): «اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح».
وقال ابن بطه في "الإبانة الكبرى" (2/ 635): «وتمام الإيمان إنما هو بأداء الفرائض , والعمل بالجوارح مثل: الصلاة , والزكاة , والصيام , والحج , والجهاد مع القول باللسان , والتصديق بالقلب».
وعند الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" (2/ 468): «قال أهل السنة: أداء الفرائض، وأعمال الجوارح من الطاعات هي من الإيمان».
وقال المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (1/ 365): «الإيمان والإسلام تصديق وخضوع بالقلب واللسان، وعمل بسائر الجوارح، وتصديق لما في القلب».
وقال ابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 685): «الإيمان المطلق إنما هو للمعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح دون بعض ذلك».
وقال ابن منده في "الإيمان" (1/ 331) في قول أهل السنة والجماعة: «الإيمان هي الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح».
وقال القيرواني في عقيدته المشهورة: «وأن الإِيمان قول باللسان، وإِخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها، فيكون بها النقص، وبها الزيادة».
وفي الاعتقاد القادري الشهير (ص247): «ويُعلم أن الإيمان قول وعمل ونية، وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح».
وقال ابن قدامة في "اللمعة" (ص: 26): «الإيمان قول وعمل والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان».
فهذه النقول عن السلف تؤكد دخول أعمال الجوارح في أصل الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (7/ 505): «ولكن القول المطلق والعمل المطلق؛ في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح .... فقول السلف: يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر».
فإذا فهمتَ ما تقدم:
فإنَّ كل من قال بأنّ «أعمال الجوارح» من «كمال الإيمان» ولم يجعل للأعمال في «أصل الإيمان وموجب صحته» نصيبٌ فهو مرجئ، ولن يغني عنه قوله في مسمى الإيمان بأنه: «قول وعمل» وأنه: «يزيد وينقص» فبزعمه أن الأعمال «كمال» يكون:
[1] قد أخرج العمل من "حقيقة" الإيمان! ولو ذكره في "مسماه".
[2] والإيمان عنده بعد التأمل: «لا يزيد ولا ينقص» لأن الإيمان يصح بالقول، وكما تقدم في قول الإمام أحمد- أن القول يقبح فيه الاستثناء والوصف بالزيادة والنقصان! فإيمان ذاك الذي دخل الجنة ولم يعمل خيرا قط لم يزد قط ولم ينقص!
[3] أنهم حين جعلوا الإيمان يتم ويصح بالقول فقط بدون عمل! والقول لا يعتريه الاستثناء ولا الزيادة والنقصان، صار إيمان كلّ المؤمنين سواء! فالذي يخرج من النار بمجرد «قول القلب واللسان»  إيمانه كإيمان جبريل، فما العمل الذي جاء به جبريل إلا كمالٌ خارج عن الأصل!
[4] ولا يضر مع الإيمان ذنب؛ فيما يزعمون! لأن العمل فعله وتركه لا يُنقص «أصل» الإيمان ولا ينقضه! فلا يضر مع الإيمان الذي هو مجرد «قول القلب واللسان» ذنبٌ، وإنما الذنب يؤثر في «الكمال» فقط! فجعلوا كلمة التقوى كلمةَ الفجور كما قاله شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى.
فأي خبث أخطر من هذا الخبث؟
وأي مكرٍ أشد من هذا المكر؟
وأي بلاء أصيب به المسلمون أشد من هذا البلاء؟
يقررون كتب أهل السنة في الإيمان، وتعريفهم له، وهم ينقضونه نقض الغزل من بعد قوة أنكاثا؟ وأدخلوا دين المرجئة على أهل السنة، حتى صار بعض الهمج الرعاع يجمع بين الشيء ونقيضه! والثرى والثريا، ويستدل بكلام الأئمة الأعلام وعلماء الدعوة السلفية وربما نشر مؤلفاتهم، وقرر في مواطن تقريراتهم، ثم يناصر هذا القول وأن أعمال الجوارح من كمال الإيمان لا من أصله ويؤيده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تم المراد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي

14 ربيع الأول 1438هـ

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني