من المختارات لكم (121): تبكيت المبهوت في تحريفه لآية القرار في البيوت

تبكيت المبهوت
في تحريفه
لآية القرار في البيوت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد عُرض عليّ مقطعٌ مرئيٌّ لجاهلٍ من جُهَّال الزمان، ممن لم يُعرف بعلمٍ ولا حِكْمةٍ ولا ديانة، يتأوَّل القرآن الكريم على غَير تأويلِه تبَعاً لهواه، على سَنَن أهل الزيغ والضلال، الذين قال الله تعالى فيه: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم مَن سمَّى الله فاحذروهم»، فهذا الرجل وجنسه مما يجب على المسلمين الحذر منهم، والابتعاد عن الاستماع إليهم، لما فيهم من دلائل الهوى، وعلامات الضلال، في تحليل ما حرّم الله، والتهوين من المنكرات، وتحريف أدلة الشرع لسفور المرأة وتبرجها، وإسقاط الولاية عنها، وإباحة اختلاطها بالرجال، وغير ذلك من المسائل التي فُتن بها ذلك الغِمْرُ الجهول.
ومن تابع كثيراً من مقاطعه المرئية، ولقاءاته مع النساء السافرات المتبرجات وقف يقينا على انحرافِ مذهبِهِ والعياذ بالله، ولو كان صادق النُّصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ لما أهمَل العديد من المنكرات الظاهرة بالبيان والإيضاح، والتحذير والنصح، ولكنَّه قلبٌ منكوسٌ لا يَعرف معروفاً، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه.
وقد تكلَّم هذا الجاهل عن قرار المرأة في بيتها، وقول الله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) (الأحزاب: 33-34).
مخالفاً لقول من أمر المرأة بالقرار في البيوت بدليلين اثنين:
أحدهما: أن القراءة الصحيحة في قوله تعالى: (وَقَرْنَ) أنها بالكسر، زاعماً أنها قراءة البصريين والكوفيين وترجيح ابن جرير الطبري إمام أهل التفسير.
والثاني: أن الآية خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم زعم بأن القول بقرار المرأة في بيتها يعطل الكثير من المنافع التي تعود على المرأة والمجتمع!
وهـــذا:
من شأن أهل الأهواء في تعطيلِ الشريعة، والأخذ من دين الله بأهوائهم، وما حجته والله دليل ولا أثر، ولا قراءة ولا خبر، وإنما دليله الهوى، ولو عدم الأدلة لأشهر محادة الله ورسوله بأغرب الأقوال، ولكن أمثاله من أهل الأهواء يبحثون عن مداخل ومسالك ملتوية في فهم النصوص ليُفسدوا عن الناس دينهم، فهو وأمثاله من القُصَّاص الذين حذَّر منهم السلف، وأضلوا الناس ببقايا اللحى التي في وجوههم، ومن عجيب الموافقة أن الحث على خروج النساء جاء بألسنتهم من قديم الزمان، كما روى سعيد بن منصور في "تفسيره" (5/ 184) بإسناد جيد عن معاويةَ بْنَ قُرَّة رحمه الله قال: «قالَ اللَّهُ عزّ وجلّ للنساء (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) والقُصَّاصُ يأمرونهن بالخروج».
فهذا ردٌّ صريح من أحد أعلام التابعين على ذلك الجاهل الغبي في المسألة التي بين أيدينا بعينها!
وأما الجواب عن كلام هذا الجاهل، فيقال:
أولاً: أنَّه لا شك أن جمعاً من القرّاء قرأوها بالكسر: (وقِرنَ) وهم أكثر الكوفيين والبصريين، ولكنَّ قراءة علماء المدينة، ولسان أهل الحجاز الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم وبلسانهم، وهي قراءة عاصم ونافع والتي عليها المصحف اليوم بالفتح، وهي الصواب، وهي مفهوم السلف، وعليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته، وذلك من القرار في البيوت، على وجه المطابقة لمعنى الكلمة ابتداء، وعلى وجه المقابلة والمنافاة لمعنى (التبرج) الذي ينافي القرار، وهو الخروج كما سيأتي.
وكذلك ذكر القرطبي (14/ 178) أنَّ الآية تحتمل في بعض معاني قراءتها بالخفض معنى القرار في البيت، وكذلك الأزهري في "تهذيب اللغة" (8/ 226).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (5/ 554): «وقال الله - عز وجل -: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)أي: لئلا يخرجن بعد موته».
ومما يدل على أن المراد هو القرار  في البيت؛ فهم الصحابة:
ومنهم عمار بن ياسر وأقرته عائشة الصديقة رضي الله عنهم أجمعين، فيما رواه الطبري عن أبي يزيد المديني قال: قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكم -يشير إلى قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)- فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق , قال: «الحمد لله الذي قضى لي على لسانك» قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (51/13): «إسناده صحيح».
ومثله ما رواه ابن سعد (8/ 81) والإمام أحمد في "الزهد" (ص135) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 49) والبلاذري في "أنساب الأشراف" (2/ 266) عن الأعمش عن عمارة بن عمير وأبي الضحى عمَّن سمع عائشة رضي الله عنها إذا قرأت هذه الآية: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب: 33] بكت حتى تبل خمارها».
وروى ابن سعد (8/ 55) عن ابن سيرين قال: قالت سودة: «حججت واعتمرت فأنا أقر في بيتي كما أمرني الله عز وجل».
فكل هذا يدل على أن الصَّواب من قولي أهل التفسير أن المراد به القرار في البيوت، وهو ضد (التبرج) وهو الظهور بالطيب والزينة.
كما روى عبدالرزاق في "تفسيره" (3/ 37) عن مجاهد , في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] قال: «كانت المرأة تتمشى بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية».
وبنحو المعنى في "المصنف" (4/ 371) روى عن عطاء بن أبي رباح إمام أهل التفسير.
وروى البخاري في "صحيحه" (6/ 117) عن معمر  قال: «التبرج: أن تخرج محاسنها».
قال الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/ 275): «أجمعوا على أنه لا يرخص للشواب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة؛ لقوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) والأمر بالقرار نهي عن الانتقال ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام».
وأما ادِّعاء أن الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فهي ادعاءٌ باطل لا أصل له، فالخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء المسلمين لهنّ تبع، قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (6/ 408): «هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك»، وهنّ أسوة لكل المؤمنات في الصفات الكاملة، والأخلاق النبيلة، والعفة والحياء، ولا دليل على الخصوصية في ذلك، بل جاء في الآيتين ذكر:
 [1] الخضوع بالقول.
[2] قول المعروف
[3] إقامة الصلاة.
[4] إيتاء الزكاة.
[5] طاعة الله.
[6] طاعة الرسول.
[7] تلاوة الكتاب والسنة في البيوت.
ومن ضمنها:
[8] القرار في البيوت، وعدم التبرج تبرج الجاهلية.
وكل هذه الأمور لا تُخصّ بها أمهات المؤمنين، فلماذا كان القرار في البيوت خاصاً بهنّ دون بقية الأمور؟!
ويؤيد المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» متفق عليه، وفي لفظ عند مسلم: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» وفي آخر عنده: «إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن» وفي لفظ عنده: «إلى المساجد بالليل» وعند أبي داود: «ودورهن خير لهن» وعنده أيضاً: «ولكن ليخرجن وهن تَفِلات» ومعنى تفلات: غير متطيبات.
وهذا الحديث فيه فوائد:
منها: أن للرجل منع أهل بيته من الخروج من حيث الأصل.
ومنها: إثبات الولاية والاستئذان في الخروج من البيت، فدلّ على أن الأصل قرارها في البيت ولا تخرج منه إلا بإذن.
ومنها: عدم منع من أرادت الصلاة مع الجماعة، لفضل الصلاة والعلم.
ومنها: التزام القيد الحجاب والستر وعدم التطيب والتبرج بالزينة.
ويؤكد هذا المعنى ما رواه الترمذي -وصححه كالدارقطني وابن عدي في آخرين- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» وفي زيادة عند البزار والطبراني: «وإنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في قعر بيتها» قال الهيثمي: «رجاله موثوقون».
وفي لفظ عند أبي داود: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": «إسناده جيد».
وجاء عند الطبراني عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا قال: «إنما النساء عورة , وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس , فيستشرف لها الشيطان, فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته , وإن المرأة لتلبس ثيابها , فيقال: أين تريدين؟ , فتقول: أعود مريضا , أو أشهد جنازة , أو أصلي في مسجد , وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها».
فكل هذا يدل على أن الأصل في شأن المرأة القرار في البيوت، ولذلك جاء الشارع بقضية المكث في البيت والخروج منه في أحكام عدة، كعدة المتوفى عنه زوجها، وفي المطلقة الرجعية قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1] وذكر الإذن منهن، والأذن في الدخول عليهن، كل ذلك يدل على أن الأصل في شأن المرأة المكث في البيت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته بعد أدائهن الحج معه: «هذه، ثم ظهور الحصر» رواه أبو داود، قال ابن الأثير: «كناية عن لزوم البيت وترك الخروج».
 وأما دعوى أن في قرارها في البيت تعطيل لمصالحها ومصالح المجتمع، فتهاويل ليل، وترانيم كاهن! ومن زخرفة الباطل، وتزيين الضلال، فالشرع أحكم وأعلم بمصالح المرأة، ولم يمنعها الشارع عما فيه الانتفاع بها، ورعاية مصالحها، بل أباح لها الخروج إذا كان طاعة وقربة، أو حاجة وضرورة، وأمرها بالكف عن مخالطة أنفاس الرجال، وجلب أنظارهم وأسماعهم من ضرب قدم بالخلخال، كما قال تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) [النور: 31] وعن التطيب ليجد الرجال ريحها، وعن الخضوع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وعن السير في وسط الطريق، وعن غشيان مواطن الريب، وقيد الخروج بإذن الزوج، كما تقدم في حديث: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وعليه عقد البخاري (7/ 38): «باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد وغيره».
فكل ذلك يدل على أن المرأة لا تخرج إلا بقيود وشروط، وفي حاجة وطاعة، فكيف بمن سبيله سبيل ذلك المفتون الذي جاء بذلك الكلام في إقرار خروج المرأة إلى الملاعب الرياضية؟ ومزاحمة الرجال! والرقص والمكاء والتصدية! وصخب الأصوات، وفتنتهن بالرجال، وفتنة الرجال بهن؟
أهذه مصلحة المرأة؟
أهذه مصالح المجتمع؟
قاتل الله أهل المكر والخديعة ماذا يريدون بنساء المسلمين.
روى عبدالملك بن حبيب في "أدب النساء" (ص: 244) بلا إسناد عن أبي إسحاق الهمداني أن عمر بن الخطاب قال: »باعدوا بين أنفاس النساء وأنفاس الرجال! واستعينوا عليهن بالعري لأن المرأة إذا عريت لزمت بيتها!».
وعن عائشة أنها قالت: «شر النساء اللاتي يتشوفن للرجال! وشر الرجال الذين يتشوفون للنساء ويفتنون الناس!».
وقال القرطبي في "تفسيره" (14/ 181): «قال ابن العربي: لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه».
وهكذا كنّ نساء الصحابة في الحشمة والعفاف والمكث في البيوت، وكذلك كنّ نساء العرب الحرائر في الجاهلية والإسلام، في ملازمة البيوت، وحفظ حق الزوج وعهده، والقيام بالبيت وشؤونه، وعدم الخروج منه إلا بإذن وفي مصلحة شرعية وحاجة أو ضرورة دنيوية.
اللهم أصلح شأننا، وردنا إليك ردّاً جميلا، وأصلح الراعي والرعية، وارفع منار التوحيد والسنة، والعفاف والحياء، واقمع أهل الزيغ والفساد.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
11 صفر 1439هـ
الطائف


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني