رسالتان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

رسالتان
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
للعالمين الجليلين:
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
و
عبدالله بن محمد بن حميد
رحمهما الله
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، إلى إخواننا المسلمين، جعلنا الله وإياهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له الأنبياء والمرسلين؛ فلو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد. قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [سورة الروم آية: 41] . فنعوذ بالله من اندراس هذا المهم العظيم، واستيلاء المداهنة على القلوب، وذهاب الغيرة الدينية.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو عنوان الإيمان، ودليل السعادة والفلاح، قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة آية: 71] .
وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة آل عمران آية: 110] ، وقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المائدة آية: 78-79]
وهذا غاية في التغليظ، إذ علل استحقاقهم اللعنة، باستهانتهم بأمر الله، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى أبو داود، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم».
وعن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله فيه يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»، رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه.
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها؟ قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانا، لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط».
وعن جرير مرفوعا: «ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذابه»، رواه أحمد وغيره، وفي مراسيل الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه، ما لم يمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها. فإذا هم فعلوا ذلك، رفع الله يده عنهم، ثم سلط عليهم جبابرتهم، فيسومونهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر».
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: «أوحى الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم».
وذكر الإمام أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعوا خياركم، فلا يستجاب لهم، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم».
وفي الطبراني، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما طفف قوم مكيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا منعهم الله القطر، وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون. ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضا، إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف؟ وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم».
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»، وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها. فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة. فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه، ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه، وأهلكوا أنفسهم» رواه البخاري.
والأحاديث في الحث على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كثيرة جدا. فاتقوا الله عباد الله، وهبوا من رقدتكم، واستيقظوا من غفلتكم، وقوموا بأمر ربكم، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتناصحوا فيما بينكم، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
وكل إنسان مسؤول بحسبه، وعلى قدر طاقته واستطاعته، ففي الحديث: «ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يوتى الإسلام من قبله»، وعلى الآمر بالمعروف أن يستعمل أنجع الوسائل، لإزالة المنكر وتغييره.
قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل آية: 125]
كما أن عليه أن يصبر ويحتسب إذ أوذي في الله، أو أسمع ما يكره، قال تعالى، حاكيا عن لقمان في وصيته لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [سورة لقمان آية: 17] . والقائم في هذا الأمر ستكون له العاقبة الطيبة والذكر الجميل، قال تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة الأعراف آية: 128] .
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقوم بذلك على الغني والفقير، والقريب والبعيد، والشريف والوضيع، ولا يخاف في الله لومة لائم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: «إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وتحرم الشفاعة لأهل الجرائم، فعن ابن عمر مرفوعا: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره»، وفي الموطأ: «إذا بلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع»، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من آوى محدثا»، أعاذنا الله وإياكم من أسباب غضبه وأليم عقابه، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، 18/9 سنة 1376 هـ.
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم للعمل بما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومناهيه، آمين. سلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
وبعد: فلا يخفى ما أصيب به الإسلام والمسلمون، من الشرور والفتن، والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بالوداع، والنفاق قد أشرف وأقبل باطلاع. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره، لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره؛ ولم يقوموا بالدعوة إليه، بغرس محبته في القلوب بذكر ما تقدم؛ فإن الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج اللذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة.
والاجتماع المأمور به، في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) [سورة آل عمران آية: 103] تهدمت مبانيه، والائتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
نرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو ركن من أركان الإسلام، في قول طائفة، من العلماء، ضعف جانبه، وكثر في الناس مجانبه، وتنوعت مقاصد الخلق، وتباينت آراؤهم؛ فالمنكر للمنكر في هذه الأزمنة، يقول الناس فيه: ما أكثر فضوله، وما أسفه رأيه! وربما غمزوه بنقص في عقله؟ ومن سكت وأخلد، قيل: ما أحسن عقله، وما أقوى رأيه، في معاشرته للناس، ومخالطته لهم!
والله قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فأخص أوصاف المؤمنين، المميزة لهم عن غيرهم، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورأس الأمر بالمعروف: الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له، وتبصيرهم بما دل عليه كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتحذيرهم من مخالفة ذلك.
قال الإمام الغزالي، في قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة التوبة آية: 71] : وصف الله المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خارج عن هؤلاء المؤمنين. انتهى، وفي قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) [سورة الأعراف آية: 165] ما يدل على أن الناجي هو الذي ينهى عن السوء، دون الواقع فيه والمداهن.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الأعظم للدين، والمهم الذي بعث الله لأجلة النبيين، ولو أهمل لأضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعم الفساد، وهلك العباد; إن في النهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والكمالات، فإذا أهمل أو تسوهل فيه، تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور، بلا مبالاة ولا خجل.
ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم؛ ثم يتجرأ الكثيرون، أو الأكثر على ارتكابها، ولكن يا للأسف! استولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، حيث اندرس من هذا الباب عمله وعلمه، وانمحى معظمه ورسمه، واسترسل الناس في اتباع الأهواء والشهوات.
ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ للشريعة، وحماية لأحكامها، تدل عليه- بعد إجماع الأمة، وإرشاد العقول السليمة إليه- الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، مثل قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ?يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة آل عمران آية: 113-114] ، فدلت الآية الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث، لم يشهد لهم بذلك إلا بعد أن أضاف إليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد ذم سبحانه وتعالى: من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المائدة آية: 78-79] وهذا غاية التشديد، ونهاية التهديد، فبين سبحانه وتعالى: أن السبب للعنهم هو: ترك التناهي عن المنكر، وبين أن ذلك بئس الفعل.
ولا شك، أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عنه، فقد أعانه عليه، بالتخلية بينه وبين ذلك المنكر، وهو عدم الجد في إبعاد أخيه عن ارتكابه. قال ابن عباس رضي الله عنه: «لعنوا في كل لسان على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ولعنوا على عهد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن».
(لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [سورة المائدة آية: 63]
قال القرطبي: «وبخ سبحانه وتعالى علماءهم في تركهم نهيهم، فقال: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [سورة المائدة آية: 63] ، كما وبخ من سارع في الإثم، بقوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة المائدة آية: 62]» وقال: «ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر» ا. هـ.
فإن الأمة في عهد استقامتها وتمسكها بالسنن، لا تطيق أن ترى بين أظهرها عاصيا ولا معصية؛ فإذا رأت شيئا من ذلك ثارت ثورة الأسد، ولم تهدأ إلا إذا أذاقت المجرم ما يليق به، وما يستحق على قدر جريمته، تفعل ذلك غيرة على دينها وطلبا لمرضاة ربها. والمجرمون إذا رأوا ذلك، كفوا عن إجرامهم وبالغوا في التستر، إذا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون.
فإذا لم تستقم الأمة، ولم تراع سنن دينها، ضعفت غيرتها، أو انعدمت انعداما كليا في نفوسها؛ إذ لو شاهدت ما شاهدت من المعاصي، إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة، لا يخاف معها العاصي، ولا ينزجر عن معصيته؛ بم وإما أن يتفق الجميع على الإغماض عن ذلك العاصي، فيفعل ما يشاء بدون خوف ولا خجل، وإذاً يرفع ذوو الإجراء رؤوسهم غير هيابين، ولا خجلين من أحد.
ولقد وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عند كل أحد، حتى من يرجى ويظن أنهم حماة الإسلام، وأبطال الدين، مما جعل العصاة يمرحون في ميادين شهواتهم، ويفتخرون بعصيانهم، بدون حسيب ولا رقيب؛ ولو شئت لقلت- ولا أخشى لائما- نحن في زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل، وأصبحت الدولة لهم. وأهل الفضيلة، المتمسكون بأهداب دينهم، عندما ينكرون على المجرمين إجرامهم، يكونون كالمضغة في الأفواه البذيئة، ترميهم بكل نقيصة، وأقل ما يقولون: إنهم متأخرون، جامدون في بقايا قرون الهمجية، يبتسمون ويقهقهون، ويغمزون بالحواجب والعيون، ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بهم، ويضحكون من عقولهم، لما راجت الرذيلة في هذا العصر هذا الرواج.
وما درى هؤلاء المرذولون، أنهم في غاية من السقوط والهمجية، التي ليست دونها همجية، لفساد عقولهم، وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم ; وناهيك لو قام كل منا بما عليه من الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الناس وعظتهم، وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم، لاستقر الخير والمعروف فينا، وامتنع فشو الشر والمنكر بيننا، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [سورة الأنفال آية: 25] .
وقد صرح العلماء رحمة الله عليهم بأنه يجب على الإمام أن يولي هذا المنصب الجليل، والأمر الهام، الذي هو في الحقيقة مقام الرسل، محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون ذا رأي وصرامة، وقوة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، كما قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران آية: 104] .
فدلت الآية الكريمة على أنه يجب على المسلمين أن تقوم منهم طائفة بوظيفة الدعوة إلى الخير، وتوجيه الناس، وعظتهم وتذكيرهم إلى ما فيه صلاحهم، واستقامة دينهم، وأن يكونوا على المنهج القويم، والصراط المستقيم.
والمخاطب بهذا كافة المسلمين، فهم المكلفون، لا سيما الإمام الأعظم، وأن يختاروا طائفة منهم، تقوم بهذه الفريضة الهامة، التي هي أحد أركان الإسلام في قول طائفة من العلماء. قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الذي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يا للأسف على منام القلوب، وقيام الألسنة بالقول، والتأويه على الإسلام، بما لا حقيقة له، لقد انطمس المعنى وذهب اللب، وما بقي إلا قشور ورسوم.
واكتفى الكثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه، بدون أن يعملوا به، ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرا وإنذارا، وأمرا ونهيا، وتبصيرا للناس بدينهم؛ بذكر فضله وعظمته، وإيضاح أسراره وحكمه، وغرس العقيدة الحقة في قلوبهم، فهذا واجب المسلمين بعضهم لبعض، كل على قدر استطاعته ومقدرته.
هذا، وأسأل الله أن يوفق المسلمين، وولاة أمورهم، لما فيه صلاحهم، وصلاح دينهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين.
[المصدر: الدرر السنية:15 / 8-20]

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني