من المختارات لكم (140): عشر آفات تعاني منها الأوساط العلمية والدعوية

 

عشر آفات

تعاني منها الأوساط العلمية والدعوية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

الحكمة ضالةُ المسلم، وأينما وجدها فهو أحقّ بها، والإسلام قائم على النصح والوضوح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلـم: «الدين النصيحة» وأصوله وفروعه ضد: الغش والخديعة، والتواطؤ على الشر.

فإذا تبيّن ذلك:

فليس عيباً أن يُذكر الخطأ ليُعالج، ويتدارك طبّه، لأنَّ السكوت عنه لا يولّد إلا خطأً آخر فآخر حتى الهلاك، والناظر إلى حال الأوساط العلمية والدعوية اليوم يلمس ضعفاً بيناً مقابل: صولة غاشمة من أهل الضلال والانحراف من كافة الطوائف والفرق، والحقّ في أصله وحجّته: غلاب، وأهله هم الأعلون، كما قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18] وقال تعالى لموسى عليه السلام: (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) [طه: 68]، وقال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81] وقال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139] وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] وقال سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173] وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21] وقال النبي صلى الله عليه وسلـم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة منصورة» والحق قائم بذاته، قوّته منه وفيه، المهم أن «يأتي ويحضر» كما في الآية: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) [الإسراء: 81] فإذا غاب، أو ضعف حضوره تكون للباطل صولتُه وجولتُه، وحضورُ الحق يتحقق بخروجه من جوف الصدور والسطور، فمتى حُبس وراء الشفتين والدفَّتين، غاب ضوؤه، واكتسح المكان والزمان: ظلام البدعة والضلالة.

إذا عُلم هذا:

فإن الأوساط العلمية والدعوية اليوم تعاني من بعض الضعفِ والفتور، والتفرّق والشتات، نتج من وراء ذلك: انتشار دعاة الضلالة في شمال العالم وجنوبه، وشرقه وغربه، وبلاد العرب وبلاد العجم! وهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ومآربهم إلا أنهم جميعاً بلا استثناء: يتفقون على حرب الدعوة السلفية، والطعن فيمن سموهم بـ: الوهابية! والتشكيك في عقيدة أهل السنة، وقابل ذلك الخلل الفاجع في صفوف شبابنا بعدة آفات في طريق علمهم ودعوتهم تسببت في ضعف الصاحب، وقوة العدو، والتي يجب علاجها عاجلاً من أصحاب العلم والقدوات، ومن تلك الآفات:

الآفة الأولى: الانفلات من «حوزات العلماء»، والعلماء جُّنة، يسير الناس وراءهم، وتُرد الشبهات بهم، ويُؤخذ العلم منهم، فتمرَّد البعض عليهم، ولم يكن هذا التمرد آفة الناشئة المبتدئين فقط! بل صار آفة بعض طلاب العلم المتصدرين للتدريس والفتوى! وكأنهم بذلك يريدون صرف الناس عن أولئك الأعلام إليهم! فانقطعت ملازمتهم لأشياخهم، وهجروا حلقهم، وتركوا مجالسهم، بل حتى تجردت ألسنتهم من ذكر أشياخهم وفضلهم، وحث الناس على مجالسهم، وهذا من أقبح العقوق، وأرذل العادات، وإلا فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ومن عظيم حق الشيوخ علينا: إشاعة ذكرهم، وإذاعة محاسنهم، ونشر علومهم، وذكر فهومهم، وإلحاق الطلاب بمجالسهم.

وقد أدركتُ في زمنٍ غابر وآخر حاضر! مشهدين راسخين في البال، أحدهما يسر الناظرين وآخرهم تدمع منه العين.

أما الأول: فمجالس شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى، وقد كانت الحلقة الأقرب إليه: تضم كبار المشايخ والعلماء الذين تواضعوا لعلمه، وحفظوا له فضله وعهده، وما هجروا مجالسه ودروسه، وهم من العلم والرتبة والمكانة والمنصب على قدرة على الاستغناء كما صنع غيرهم، ولكن هكذا الوفاء والعلم والأدب في قلوب أولئك الأفاضل.

والمشهد المبكي: عندما حضرت عند شيخ قد ثنى العمرُ ظهرَه، وكسى الشيبُ وجهَه، وامتلأت عينه بالحزونة لغياب أكابر طلابه عن مجلسه، ولا يوجد حوله إلا القليل من صغار الطلاب، وكلما ذَكَر لي أحدَهم، أو سألتُه عنهم: شَرَق بكلامِه عنهم أسىً وحزنا على غيابهم!

فهذا النوع من الهجر، قصم ظهر الصف السلفي، وفصل اللاحق عن السابق، وزهد الآخر في الأول.

وكما أن حياة الناس في دنياهم لا تستقيم إلا بالولايات الدنيوية على مستوى الدولة والإقليم والجهة، فكذلك دين الناس لا يستقيم إلا بالولايات الدينية، والمرجعية العلمية، فمن نُصّب من ولاة الأمر في ولاية دينية فالمرجع إليه، والالتفاف حوله، وإلا فالأكابر الأكابر، من المدينة الصغيرة إلى أرجاء العالم الإسلامي، وهم علماء الأمة الذين يرجع الناس إلى فتاويهم ومقالاتهم وتقريراتهم، ولن يَحْترم العالمَ الأعلى من لا يحترم العالمَ الأدنى، ومن تجاوز الأدنى بهواه، فلن يقصر به الهوى عن مجاوزة العالم الأعلى إذا خالف هواه! فتربية الشباب على احترام علماء الحي والبلد والإقليم والدولة والعالم الإسلامي أجمع باب هداية عظيم.

الآفة الثانية: انفراط الرباط! فلم تعد هناك الملازمة التامة للمشايخ، وصارت الدروس والمجالس: أسبوعية وشهرية! بل ربما تضمحل وتصير سنوية: صيفية وربيعية، وفي أسبوع فقط! وما هكذا يكون العلم ولا التعليم، ومهما كانت المعاذير من الاشتغال بالوظائف والأعمال، فلم تكن تشغل قوماً نعرفهم جميعاً من الأقدمين والآخرين ما أشغلتهم الأعمال عن مجالس أهل الكمال، فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلـم: نبيُّ أمة، وقائدُ جيش، يقضي بين الناس، ويُصلح بينهم، ويَسعى بحاجة الضعيف منهم، ويَؤمُّهم في الفروض الخمسة، ويُصلي بهم الجمعة والعيدين، ولا تفوته سنة الضحى ولا قيام الليل، ويستقبل الوفود، ومع ذلك كله كان يجلس لأصحابه كل يوم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الدين، ومن يعجز من أصحابه عن الحضور أناب صاحبه عنه! وجعل للنساء مجلس علمٍ كلّ خميس، وعلى ذلك سار العلماء الأعلام بعده إلى عهدٍ قريب، وقد أدركت شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى، وقد اجتمع له في بعض سنوات حياته أن كُلّف بخمسة عشر منصباً في الدولة! وما ترك درس الفجر ولا العصر ولا بين أذان وإقامة العشاء، ولا ترك استقبال الطلاب والضيوف بعد الظهر وبين المغرب والعشاء! لأنه بذلك نفسه لمن قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، ومن ينصر الله ينصره الله.

واليوم؛ انفرط الرباط! فلا الكثير من العلماء يجلسون للطلاب، ولا الكثير من الطلاب يواظبون على مجالس الشيوخ، ومن ترك الناس تركه الناس، ومن جلس إليهم جلسوا إليه، وبعد ذلك لا نعجب من كآبة الحال، وسوء العاقبة أن لا يجد العامي وطالب العلم من يفزع إليهم في الفتوى بدون مشقة ومواعيد وتكبد عناء، ثم لا يجد إلا الهزيل العليل من أدعياء العلم الذين يُضلون ولا يهدون سبيلا.

الآفة الثالثة: غياب الأدب، فلا الشيخ يؤدب، ولا الطالب يتأدب، فتخرج جيلٌ لم يلتزم سمت العلماء ودلّهم في حمل العلم والدعوة إلى الله، بل حتى في التعليم والفتوى! وما من باب من أبواب العلم إلا وعقد أئمتُه وسادتُه وساستُه أبواباً في الأدب حال التلقي والأداء، كـ: أدب القاضي، وأدب المفتي والمستفتي، وآداب حملة القرآن، وأخلاق العلماء، وأدب الفقيه والمتفقه، وأدب المحدث وطالب الحديث، وأدب العالم والمتعلم، ونحو ذلك، وفي قصص السلف لنا عبرة في عظيم أدبهم وسمتهم وهداهم، حتى لا يكاد يُنقل عن أحدِهم: سفاهةُ فعلٍ، أو شذوذُ فتوى، أو رداءةُ عقلٍ، أو خارمةٌ من خوارم المروءة، واليوم! تُعيّر الدعوة الحق ما بين حينٍ وآخر بجهالة سفيه، وطيش أحمق، وزلة عاقلٍ، وغَفلة صالح! وما العلم إلا بالتعلم، وما الأدب إلا بالتأدب، والكلُّ في الحاجة إليه سواء، فكما أن الطلاب بحاجة إلى أدب التعلم، كذلك العلماء بحاجة إلى أدب التعليم والظهور للناس، والجلوس للدرس والفتوى.

وقد كان الناس في زمنٍ مضى في عافية، وليس كل ما يُقال يُعلم، وأما اليوم مع هذه البرامج الحديثة فالزلة تبلغ الآفاق قبل أن يبتلع صاحبُها ريقه! ومن حولنا: خصوم يرتقبون، وأعداء يترصدون، وخبثاء يتصيدون، فالحمل ثقيل، ينادي العاقل الذي يغار على العلم والسنة أن يحاسب نفسه، ويتقي مصارع السوء.

الآفة الرابعة: اضطراب الصفوف؛ ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا جهالهم سادوا، فالعلماء قادة، فإذا تقدموا تأخرنا، وإذا تكلموا سكتنا، وأما اليوم فاختلفت صفوفنا، فنتج من وراء ذلك اختلاف قلوبنا! وهذا هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلـم يخاف علينا منه لما كان يرص الصفوف، ورأى من تقدم على غيره، فقال: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» فاختلاف القلوب نتاج حتمي لاختلاف الصفوف، فصار الحال كما يقال: يختلط فيه الحابل بالنابل! فلم نعد نسمع القاعدة النبوية الأدبية: «كبّر كبّر» فتكلم الجاهل قبل العالم، وأفتى السفيه قبل العاقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والواجب: الرد إلى العلماء، وانتظار قولهم، كما قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83].

ولنا درس وعبرة في قصة أبي موسى الأشعري مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما في قصة أصحاب الحلق في المسجد، وكذلك في رحلة يحيى بن يعمر والسلمي إلى ابن عمر من العراق إلى مكة من أجل القول في القدر، ونظائر هذا كثير.

الآفة الخامسة: تأخر علاج الجرح ينادي بفساد الجسد! فلا طب حينذاك إلا الهلاك أو الاستئصال! وكذلك الحال اليوم، في أكثر من جائحةٍ فكرية، وخلافٍ ديني، ونزاعٍ علمي! يتأخر فيه تدخل العلماء والعقلاء بالقول الفصل، والحكم العدل، فتتمزق جماعتهم كلّ ممزق، ولكل مخالف حزب، وصاروا (شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 32]، حتى صار أهل الحق يفترقون في قطرٍ من الأقطار بسبب حب شخصٍ وبغضه، والثناء على فلان وذمه، وفي مسائل اجتهادية فقهية اتخذوها سلّما للهجر والتحذير، بعد عسف اللوازم ليصنِّف كل مخالفٍ صاحبَه، ويُلحقه بطائفةٍ من فرق الضلال، وما يأتي وراء ذلك من انتهاك الحرمات، وتحريش السّلطات، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان الواجب على العلماء المسارعة في حسم الخلاف، ورأب الصدع، ولمّ الشمل، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم»، وقال الأوزاعي: «ما خطوةٌ أحبُّ إلى الله - عز وجل - من خطوة إصلاح ذات البين» وقال محمد بن كعب القرظي: «من أصلح بين قوم فهو كالمجاهد في سبيل الله».

فكم يسمع الكثير من العلماء اليوم من تطاحن أبنائهم من ورائهم بالتشهير والتعيير، والتفسيق والتبديع، وفنون التنفير والتحذير، ولو أنهم دعوهم بالحكمة، وأجلسوهم بالعدل، وناصحوهم بالرحمة والشفقة، وانتصروا للمصيب، وعاتبوا المخطئ، لما احترق الكثير من شبابنا بنار الفرقة والتمزق في مشارق الأرض ومغاربها.

الآفة السادسة: ضياع الأدوار، وتعطيل المهام، فالكلّ شيخ، والكلّ يرد، والكلّ يحذر، فأهملوا جوانب من الدين، وفتحوا للشر على حصن الإسلام وأهل السنة: ثغرات، فهجر الكثير من شبابنا العلم، واشتغل في ميدان التحذير من طائفة وطائفتين! فلم يكد يعرف من الدين إلا ما تعلق بالتحذير من تلك الطوائف، وتُرك ثغر تعليم الأبناء والناشئة، وثغر تعليم البنين والبنات وتأديبهم، وثغر تعليم النساء، وثغر الأدب والتربية، وثغر الدفاع عن السنة، وثغر القرآن وتعلمه وتعليمه والدفاع عنه، وثغر الفقه والفتوى والحوادث النازلة، وثغر الرد على الملاحدة، وثغر الدعوة إلى الإسلام، وحُصر الدين كلّه في جانبٍ منه! واتجه الجميع إليه، فصارت الثغور الباقية مفتوحة لأهل الضلال، فأكثروا من خلالها الفساد.

ويضاف إلى ذلك أن مخالطة الموبوء: تنادي بالوباء، فعاد الكثير من الشباب المتحمس بالعديد من الشكوك والاضطراب في مسائل الدين، لكثرة ما يصادمون من شبه وأغاليط، ومنهم من يتنكب عن العلم والدين.

ويلحق به: أن ردود البعض لا هداية فيها ولا نور، وإنما تزيد الغواة غواية وتسلطا على أهل السنة، واغترارا بما هم عليه من انحراف، لضعف حجة أولئك، أو قصور عقولهم.

فمهمة الردود وكشف الشبه لا ينبغي أن تكون لكلِّ أحدٍ، وإنما هي مهمة الحذّاق العارفين بالنقض والرد، وبمقالات الخصوم، ومواطن الضعف والنقص والتناقض، وأساليب المناظرة، مع قاعدة الدين والعلم والعدل، ولذلك على مرِّ التاريخ ليس كل صاحب سنة: صاحب ردٍّ على أهل الضلالة والبدع، بل الأصل الاشتغال بالعلم والعبادة، وأقوى ردٍّ من العامة إنما هو بنشر الخير، وبث العلم، والدعوة إلى السنة، ونكاية هؤلاء بأهل البدع والأهواء أشد من نكاية الذين يباشرون الردّ عليهم، ونقض شبهاتهم.

الآفة السابعة: القصور العلمي، وسطحية المعرفة، فغاية حال الكثير من الطلاب: المعرفة العامة، بلا أصول ثابتة، في العقيدة والسنة والفقه وسائر العلوم، وهذا جعل فيهم من الهشاشة في التعبير والتقرير، والرد والتنظير، الشيء الكثير، مع ما يعتري كثيراً منهم من الشكوك والحيرة، وصار الكثير منهم عرضة للانحراف عن السبيل، ثم العود على السنة وأهلها بالحرب والنكير! وصار مصدّقا بين حزبه الجديد في كلّ ما يقول! مقدما بينهم، بدعوى معرفته بما عليه أهل الحق، وهو على غير هدى في الأولى والأخرى! (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: 40] (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد: 33].

حتى صرنا نسمع من أفواه الأقربين بله غيرهم صنوفاً من الشبه التي دسها أهل الضلال بينهم، فجعلتهم في حيرة وشك!

وكل ذلك داخل في هجر العلم والعلماء، والاكتفاء بالقليل منه، وطالب العلم بحاجة إلى العلم كحاجته للطعام والشراب، وكلما عظمت الفتنة، وانتشر الضلال زادت حاجته إلى طلب المزيد من البحث والنظر، والتدليل والتأصيل، فلا يكتفي الطالب بمجرد عرض المتون وحفظها وشرحها مرة واحدة، بل هو بحاجة إلى المزيد والمزيد من القراءة والبحث والنظر، وتعاهد العلم، ومراجعة العلماء ومذاكرتهم.

الآفة الثامنة: الفرار من نار الحزبية إلى رمضائها! فدبّ بين الكثير من الناشئة التحزب لبعض الأشخاص، وعقد الولاء والبراء عليهم، وامتحان الناس بهم، والحب والبغض في الموقف منهم، حتى تمكنت الحزبية منهم إلى حدِّ الغلوِّ وتصويبهم فيما يقولون، واستعظام مخالفتهم حتى في مسائل البحث والنظر، والاختلاف السائغ، وتتجلى علامات هذا الغلو بأن أحدهم مهما سمع من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلـم، والنيل من الصحابة الكرام، والتابعين الأعلام، والطعن في أئمة السنة، لن يتحرك منه ساكنا،  ولا تجد منه نخوة ولا غيرة! وبمجرد ما إن يُمس شيخُه ومعظّمُه بأدنى كلمة: إلا وتثور ثوائره، ويجتهد في الدفاع عنه، والثناء عليه، بما يكشف عمق الهوى، وشدة الحزبية المستحكمة عليه.

فالواجب أن نكون جميعاً لله: نصرتنا لدين الله، وغيرتنا لله، ومتى نيل من الإسلام من طرفٍ من أطرافه، وأصلاً من أصوله، وإماماً من أئمته: إلا وتداعى أهل السنة جميعاً إليه حمية ونصرة: طاعة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلـم.

الآفة التاسعة: الاشتغال بالصدِّ وترك الهجوم! وخيرة وسيلة للدفاع الهجوم كما يقال، فما ربح أهل البدع والضلال من هذه البرامج بشيء أكثر من الإصغاء لهم، والوقوف عند شبهاتهم، وتعطيل التعليم والدعوة من أجل الإصغاء إليهم والرد عليهم، والواجب على جميع طلاب العلم: بث العلم، ونشر الحكمة، وإشاعة دروس العلم، وإذاعتها، والاستفادة من البرامج الحديثة، فلعلمائنا ولله الحمد- بين العالمين مكانة، وعلى قولهم نور، ولهم قبول، وكلّ يخدم الإسلام والسنة من جهته، وينصر الدين على قدر طاقته، ولو بالنشر والتوزيع والإرسال إن عجز عن التجهيز والاعداد والتصميم.

الآفة العاشرة والأخيرة: الفوضوية! وعدم اغتنام التخصص، فقد كان أسلافنا مع ما بلغوا من علوم وفهوم إلا أن الكثير منهم مبرّز في باب من أبواب العلم، والكلّ يحترمون قوله، ويرجعون إليه فيه، فمنهم في التفسير وآخر في المغازي والسير وآخر في الحديث وآخر في الفقه وآخر في الزهد بل ربما تميز بعضهم في بعض أبواب الفروع دون غيرها كالفرائض أو البيوع أو الحج والمناسك، فيكون إليه المرجع وحوله الالتفاف، بل وإليه الرحلة! هذا من جهة المتلقين، ومن جهة صاحب الشأن؛ فالواجب عليه أن يكون المقام مقامه، والميدان ميدان، والشأن شأنه، فما إن يُنال الدين في الشأن الذي برز فيه إلا ويكون هو أول من يدافع عن الدين لتخصصه في ذلك، واليوم وللأسف تجد أصحاب الألقاب والدراسات العليا في كافة التخصصات يتزينون بالرتب العلية، والدكترة والأستاذية، ويمر بأبصارهم ويقرع مسامعهم النيل من دين الله تعالى في بابهم وتخصصهم وشأنهم ولا يحركون ساكنا، والله المستعان.

وهذه الآفات وإن كانت مؤلمة في الجسد العلمي والدعوي، إلا أن الدعوة السلفية الحقة ولله الحمد والمنة؛ هي الأكثر انتشارا، والأسهل نفوذا، والأوفر قبولا، فإذا ذُكر العلم كانوا في مقدمة حملته، وإذا ذكرت النصح والإرشاد كانوا حملة رايته، وإن ذكرت الدروس والدورات كانت السمة البارزة لأتباع السلف الصالح ولله الحمد، ولكن صيانة لهم من الآفات جرى تحرير هذه الأسطر تذكرةً للعالم والمتعلم، ونصيحة للسامع والمتكلم، عسى الله أن يجمع شملنا، ويقوي عزيمتنا، ويعلي بنا راية التوحيد والسنة، ويجمعنا على الهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتب

بدر بن علي بن طامي العتيبي

ضحى الاثنين 16 صفر 1444

الرياض

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني