من المختارات لكم (141): الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية من فرية أنه يدَّعي لنفسه الاطلاع على اللوح المحفوظ

الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

من فرية أنه يدَّعي لنفسه الاطلاع على اللوح المحفوظ!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقبل عشرين سنة من اليوم أظهر صاحب جهل وضلالة فرية يزعم فيها أن شيخ الإسلام ابن تيمية يدَّعي أنه يطلع على اللوح المحفوظ! بكلام نقله -سيأتي ذكره- توهم منه ذلك، ورددت عليه في حينه بما لم أجد أصله اليوم، حتى وجدت من أثار هذه الفرية مجددا، فأقول:

مدار الكلام على ما قاله الإمام أبو عبدالله ابن القيم رحمه الله في كتابه "مدارج السالكين" (2/ 458): «ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورا عجيبة. وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما.

أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام، وأن كلب الجيش وحدته في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة.

ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم. وأن الظفر والنصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا علي. قلت: لا تكثروا. كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ. أنهم مهزومون في هذه الكرة. وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.

وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.

ولما طلب إلى الديار المصرية، وأريد قتله - بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه. وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا. قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي. ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس. سمعته يقول ذلك».

فزعم الصوفي الملبّس أن شيخ الإسلام ابن تيمية يدعي علم الغيب والاطلاع على اللوح المحفوظ! وهذا من جهله وبغيه، وليس في كلام شيخ الإسلام ذلك، ولا ادعاه لنفسه، ولا ادعاه غيره من طلابه وأحبابه له.

أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن حرب التتار: « لا تكثروا. كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ. أنهم مهزومون في هذه الكرة. وأن النصر لجيوش الإسلام»، فهذا من صدق اليقين بالله تعالى وصادق وعده، كما في قصة أنس بن النضر رضي الله عنه عندما أقسم على الله، والذي حمل شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا القول: صدق اليقين بوعد الله تعالى بنصر المؤمنين، ونصر المظلومين، وهلاك الظالمين والباغين على الناس، والأدلة في ذلك كثيرة جداً في وعود ربانية، والله لا يخلف الميعاد، كقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر: 51] قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات: 171 - 173] وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] وما شابهها من آيات النصر، وجيش التتار ظالمٌ باغٍ، وجيش المسلمين مظلومٌ منتصر بالله تعالى، وهذا هو فهم العلماء كما هو صنيع ابن القيم حين ذكر هذه القصة في باب «الفراسة» وكذلك صرّح الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (18/ 23) وقال: «وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك، وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قوله تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [الحج: 60]».

فتأمل قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله».

وهذه هي حقيقة الحال، وهو من حسن الظن بالله تعالى وكامل عدله، وشيخ الإسلام من المرتبة الدينية، والمكانة الإيمانية ما يظن به أنه من أشد الناس يقيناً بالله تعالى.

ومراده بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ لأن فيه سابق مقادير الخلائق، وكل كتاب بعده نسخة منه، فيكون مراده: أن هذا سابق في قدر الله تعالى، أي: نصر المظلومين، وحُسن عاقبة المتقين.

أما قول ابن القيم: «ولما طلب إلى الديار المصرية، وأريد قتله - بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه. وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا. قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي. ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس. سمعته يقول ذلك».

فهذا كما هو ظاهر لا ذكر فيه للوح المحفوظ، ولا دعوى العلم بالغيب، وإنما هي فراسة إيمانية أو رؤيا ربانية، والقول بذلك لا يكون من ادعاء علم الغيب، وهو باب عظيم من أبواب الإيمان عند أهل السنة والجماعة، بتصديقهم بالمكاشفات وتأويل الرؤى، وهذا من جنس ذلك.

فخلاصة القول أن الكلام المنقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ليس فيه شيء مما افترى ذلك الجاهل الأفّاك، وإلى الله المحتكم يوم {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57] {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر: 52]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

بدر بن علي بن طامي العتيبي

السبت 17 رمضان 1444

الرياض


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني