من المختارات لكم (142): براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من الطعن في الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما

 

براءة شيخ الإسلام ابن تيمية

من الطعن في الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أما بعد:

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 278 – 279): «فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقا، فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»

وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره، ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟

أيضا: فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله» إلى آخر كلامه رحمه الله.

ولما وقف بعض أهل التعنت والجدال على هذا الكلام الواضح البين في تقرير الحق حملهم الفُجر في الخصومة على اتهام الإمام بأنه اتهم الصحابي الجليل عبدالله بن عمر بثلاث تهم:

الأولى: أنه ابتدع التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.

والثانية: أن ما فعله ذريعة إلى الشرك.

والثالثة: أنه متشبه بأهل الكتاب.

وهذا شغبٌ لا غير، فليس في الكلام توجيه هذه التهم لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وإنما الكلام عن الفعل، بأن طلب آثار الأنبياء والصالحين لم يكن من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو بذلك «بدعة محدثة»، وأن مثل هذا الغلو من الذرائع التي توصل إلى الشرك، والواقع يصدِّق ذلك فكثير ممن قصد آثار الصالحين بالزيارة والتعبد فيها وقع منه صنوفٌ من الأعمال والأقوال الشركية من الهتاف بأسمائهم، والتمسح بقبورهم، والسجود لها، وغير ذلك، وهذا العمل كلّه من شريعة أهل الكتاب كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن أمَّ سلمة ذكرت للنبيr كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها وتصاوير فيها فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد بنوا على قبرة مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».

ولا يلزم من الحكم على العمل تنزيله على الفاعل، وقد ذمّ النبيr أفعالاً عديدة من أصحابه رضي الله عنهم فلا يقول عاقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم يتهم أصحابه، أو يصفهم بذلك، ومن ذلك:

لما جاء الثلاثة نفر إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عبادته، فأخبرتهم عائشة بذلك، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام الليل، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الثالث: أما أنا فلا أفطر! ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قولهم قام في الناس خطيباً وهو غضبان ويقول: «ما بال أقوال يقولون كذا وكذا، أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني» ولا يجهل عالم بأن الامتناع عن الطعام وعن النوم وعن النساء بدعة ورهبانية لم يأذن الله بها، فهل يقال عن الصحابة أنهم مبتدعة؟ وهل يقال بأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن أصحابه أنهم ليسوا منه؟

ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، وقال: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف: 138]، فهل يقول عاقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم يذم أصحابه؟ أم أنه يذم العمل، ويعلمهم الخطأ، ويحذرهم منه؟

واختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل وأطلقوا الأحكام على من خالفهم في ذلك بالبدعة والفرية على الله في مسائل عديدة؛ فهل يقال بأن فلاناً من الصحابة يتهم الآخر بالبدعة والافتراء على الله؟

فعبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما كان يتتبع مواطن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيها وهذا لم يأتِ دليل عليه من النبي صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنه صلى الله عليه وسلم خلافه، كما تقدم، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، بل الثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلاف ذلك، كما في قصة الشجرة التي في الحديبية وأمر بقطعها كي لا يُفتن بها الناس، فدل على أن ابن عمر رضي الله عنهما فعل ذلك باجتهادٍ منه، فلا يكون حجة، ولا يتابع في فعله، ومن سبر أقوال الصحابة رضي الله عنهم وجد لجماعة منهم أقوالاً خالفوا فيها الصواب باجتهادٍ منهم، ومهما عظمت مكانتهم متى ظهر أنهم أخطأوا في ذلك لا يتخذ فعلهم سنة، ووسيلة لمخالفة السنة النبوية، كما قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال: رسول الله، وتقولون: قال فلان وفلان».

وكذلك وصف العمل بأنه من عمل المشركين، فالوصف إنما هو على العمل ولا يتجاوز للعامل إلا بضوابط شرعية معلومة، وكما تقدم في قصة ذات الأنواط، وتشبيه قولهم بقول بني إسرائيل، إنما الذم ينزل على قولهم لا عليهم، ولا يقال بأن النبي صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه بأهل الكتاب.

ولما أكثر الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم السؤال قال لهم: «ذروني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»، فلا يسري هذا القول إلى ذمِّ أصحابه رضوان الله عليهم، وإنما هو ذم لفعلهم مع أنه أنكر صنيعهم.

وكذلك ما كان ذريعة للشرك، لا يلزم أن يكون الواقع في ذلك مذموماً من كل وجه، وقد جاء عند النبي صلى الله عليه وسلم جماعة وقالوا: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا وخيرنا، وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله».

وجاءه رجل فقال: ما شاء الله وشئت، فقال له: «أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده» فهل يقال بأن النبي صلى الله عليه وسلم يتهم أصحابه بالشرك واتخاذ الأنداد؟ أم يقال إنما أنكر القول؟

وفي حديث اليهودي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تشركون، وتقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهل يقال بأن النبي صلى الله عليه أقر وصف أصحابه بالشرك؟ أم يقال بأن المراد: ذم القول لا القائل.

وجاءت أحاديث في أعمال عدة فعلها الصحابة رضي الله عنهم، ونهاهم عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعده من سنن أهل الكتاب، ومن الجاهلية الأولى، فهل يقول من لديه أدنى رتبة من العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهم أصحابه؟ أو يستنقص من رتبتهم؟

فمحاولة جرّ الكلام من شيخ الإسلام إلى ذم الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما محاولة فاشلة لا قيمة لها، كيف وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم مشهورة عظيمة، ووقوفه في وجوه النواصب والروافض منشور مستفيض، ويقرره في أصول عقيدة أهل السنة والجماعة.

فخلاصة القول: أن هذه التهمة هزيلة لا قيمة لها، ولا تروج إلى على الحمقى ومن لا دين ولا أمانة في قلوبهم، ولولا أن بعض الفضلاء طلب مني الكتابة في ذلك نصحاً للعامة حتى لا يغتروا بهذه الفرية لما كتبت ذلك، ولكن نسأل الله القبول والرضى، وأن يرحم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يبقي علمه نبراساً للهدى إلى قيام الساعة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

بدر بن علي بن طامي العتيبي

السبت 17 رمضان 1444

الرياض

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني