من المختارات لكم (146): طلب الإجازة وتحقيق الولاء والبراء

 

طلب الإجازة وتحقيق الولاء والبراء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد قرأت ما كتبه فضيلة الشيخ المحدث رياض بن عبدالمحسن السعيد أسعد الله أيامه ولياليه وغفر له ولوالديه  وذلك في موضوعه المنشور في ملتقى أهل الحديث تحت عنوان (إجازة الرواية وضعف التوحيد والسنة) وقد شدد النكير على من تساهل في الرواية عن أهل البدع، وأشار إلى صنوفٍ من تساهل المتأخرين في الرواية عنهم والتوسع في ذلك إلى حد الرواية عن الزنادقة من القبوريين والجهمية والرافضة!.

ولا شك أن طرحه لهذا الموضوع من الأهمية بمكان، خاصة في هذا الزمان الذي ركب طلاب الإجازات فيه الصعب والذلول ورووا عن كلّ من مشى ودرج كيفما كانت نحلته، وأينما توجهت ملته!.

ومسألة الرواية عن أهل البدع من مسائل العلل المشهورة عند علماء الحديث قديماً وحديثاً، وقد اختلفوا فيها على أقوال مشهورة، وقد بحثها جمعٌ من أهل العلم والتحقيق، ومن أواخرهم شيخ مشايخنا المحدث العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى في كتابه الجليل "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل".

والصحيح من مذاهب العلماء صحة الرواية عن صاحب البدعة بشرطين:

الأول: أن لا تكون بدعته مكفرة.

والثاني: أن لا يُعرف بالكذب في قوله ولا روايته.

وتقبل روايته بعد ذلك سواء كان داعية لبدعته أو لم يكن داعية، ولكن هذا لا ينافي الأصل عند السلف في هجران أهل البدع، وعدم الأخذ عنهم، وعدم مجالستهم، بل ربما ترك بعضهم الرواية عنهم وإن لم تكن بدعتهم مكفرة، ولم يكونوا من أهل الكذب في الرواية كلّ ذلك قربة لله، وردعاً لهم، وزجراً لغيرهم، وقد جمعتُ في كتابي "اللمع في مواقف أهل السنة من أهل البدع" العديد من الآثار عن السلف في منابذتهم لأهل البدع، والتحذير منهم، وعدم السماع لهم، والرواية منهم، والجلوس إليهم، والصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، واتباع جنائزهم، والثناء عليهم، كلّ ذلك مما كان لسلفنا الصالح المواقف القوية المشرفة، على اختلاف مقاصدهم من ذلك الهجر، لاختلاف مقاصد الهجر في الإسلام، وقد ذكرت ذلك كله في الكتاب المشار إليه.

ومنتهى القول، أن الأصل مفاصلة أهل البدع، ولكن قد يروى عن بعض من وصم ببدعةٍ لمصالح تدعو إلى ذلك كجلالتهم في الحفظ والرواية، أو انفرادهم بعلوٍ أو إسناد، ونحو ذلك.

وقد كانت أمثال هذه الدوافع متحققة في زمن النقل والرواية، ولا تزال أشباه تلك الدوافع موجودة إلى زماننا بإباحة الرواية عمن علم بالبدعة عند الحاجة إلى ما عنده من علمٍ أو شرف علوٍ صحيح، ولكنّ هذا لا يعني التنازل عن المبادئ العقدية، أو المغالاة في الثناء على صاحب البدعة، بل كان من السلف من يحدث عن الشخص ويتهمه في دينه في وقتٍ واحد.

روى العقيلي في "الضعفاء" عن عيسى بن يونس قال حدثنا ثور وكان قدرياً .

وفي "تهذيب التهذيب" قال قتيبة حدثنا جرير الحافظ المقدّم لكنّي سمعته يشتم معاوية علانية.

وفي "سؤالات الآجري" لأبي داود قال سمعت أبا داود سئل عن عباد بن منصور فقال: أحمد بن أبي سريج ، ثنا معاذ بن معاذ ، ثنا عباد بن منصور على قدرية فيه.

وفي "تهذيب التهذيب" قال الحاكم كان ابن خزيمة إذا حدث عباد بن يعقوب الرواجني يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب.

وأشباه ذلك كثير، فبيان حاله مطلوب بالعدل والإنصاف.

 ولكن مثل هذا الترخص في الرواية عن أهل البدع إنما هو لخصوص عن خصوص، وليس ذلك لعمومٍ عن عموم!.

فهو لخصوص بعض الرواة من أهل السنة ممن رسخت أقدامهم في العلم، وشُهد لهم بالدراية والتفحص، عن خصوص أهل البدع ممن توفرت فيهم شروط قبول مروياتهم.

كما كانوا يتقون الرواية عن بعض أهل البدع، ويروون عنهم بواسطة إمام في السنة تمحيصاً لروايته.

وأما رواية عموم أهل السنة عن عموم أهل البدع، فهذا لا يجوز، وهو من التلاعب في الدين، والمغامرة في مؤاخاة الضلال والمجرمين، خاصة من علم عن بدعته الشرك والوثنية، كغلاة الصوفية أنصار مذهب ابن عربي وأشباهه من الزنادقة.

فهؤلاء لا تجوز الرواية عنهم ولا ذكرهم في الأسانيد مهما كانت منزلتهم، ولا وصفهم بأسمى عبارات الثناء.

وقد أنكر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب على بعض معاصريهم روايته إسناداً فيه عبدالغني النابلسي الصوفي، و وصفه له بالعارف!، فقال رحمه الله تعالى في "الدرر السنية في الكتب النجدية"(13/22): ولا يخفاك أني عثرت على أوراق، عند ابن عزاز، فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه، رجل يقال له: عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله؛ وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي، الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر.

فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه، هو شيخهم، ويثنون عليه أنه العارف بالله، فكيف يكون الأمر؟!، انتهى المقصود.

قلت: ولك التفتيش بعد ذلك في العديد من الأسانيد المشحونة بأهل الضلال والخرق الصوفية، والدعوة إلى الوثنية وقل من يميزها، والله المستعان.

فمثل هؤلاء لا تجوز مظاهرتهم ولا الثناء عليهم، وترك الرواية عنهم هو سبيل أهل السنة والجماعة، وقد جعلوا ذلك أصلاً من أصول عقائدهم في هجر أهل البدع، وعدم الأخذ عنهم، ونصوا عليه في كتب "العقائد".

فإن قال قائل: وكيف تصنع برواية بعض أهل العلم والسنة عن بعض أهل البدع، من المتقدمين والمتأخرين؟.

قيل: هذا من رواية الخصوص عن الخصوص كما تقدم، فهم لم يرووا عن رؤوس الضلالة والانحراف، وهُم هُم في العلم والديانة والسنة والجلالة، ومن رووا عنه إنما لتفوقه في علمٍ أو بعلوٍ ونحوه.

وأنقل للحافظ الجوزجاني كلاماً نفيساً في الترهيب من الرواية عن أهل البدع، يجدر النظر فيه، والاستفادة منه، فقال رحمه الله في آخر كتابه "أحوال الرجال" (ص:209-215) بتحقيق شيخنا صبحي السامرائي:

فيا لعباد الله أما لكم في المقانع من المبرزين وأهل الأمانة من المحدثين سعة ومنتدح أن تحووا حديثهم الذي رووه عن الثقات والمتقنين من أهل كل بلدة فتعتقدونه؟، فإن في حديثهم لذي فهم غنى.

لا، ولكنّ كثيرٌ منكم جار عن الطريق وجعل طلبه لهذا الشأن وجمعه نزهة وشهوة، فإذا استُعْتِبَ فيه، قال: إنما أكتبه للمعرفة!.

فيا سبحان الله، تكتب حديث أهل الصدق للمعرفة وحديث المتهمين للمعرفة!، فمتى تترك هذا؟، وعسى أن ينشأ بعدنا قومٌ فإن عوتبوا فيهم قالوا: قد روى عنه فلان فيتخذوه حجة.

فكما نقول نحن اليوم لبعض البله: لم تروي عن فلان؟.

قال: أليس قد روى عنه فلان؟!.

فقد صار حديث أهل الزيغ أيضا يطلب بالطرق المظلمة بعد الحجة الواضحة.

والحديث حديثان:

(1) حديث يراد به الله، يقيم به المرء دينه ووظيفته، فلا يقبل منه غداً إذا سئل في القيامة عن علمه: أهلُ التهم في الدين وأهل الميل عن القصد من الاتباع للحق من قِبَلِ الله بأن الله قال  [فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ] {الأعراف:6}، وقد حدثني علي بن الحسن قال سمعت عبدالله -يعني ابن المبارك- يقول: إذا ابتليت بالقضاء فعليك بالأثر.

قال علي فذكرته لأبي حمزة محمد بن ميمون السكري -من أهل مرو لا بأس به- فقال: هل تدري ما الأثر؟، أن أحدثك بالشيء فتعمل به فيقال لك يوم القيامة من أمرك بهذا فتقول أبو حمزة فيجاء بي، فيقال: إن هذا يزعم أنك أمرته بكذا وكذا، فإن قلت: نعم، خُلِّي عنك، ويقال لي: من أين قلت هذا؟، فأقول: قال لي الأعمش، فيُسأل الأعمش، فإذا قال: نعم، خُلِّي عني، ويقال للأعمش: من أين قلت؟، فيقول: قال لي إبراهيم، فيُسأل إبراهيم، فإن قال: نعم، خُلّيَ عن الأعمش، وأُخذ إبراهيم، فيقال له: من أين قلت؟، فيقول: قال لي علقمة، فيُسأل علقمة، فإذا قال: نعم، خُلّيَ عن إبراهيم، ويقال له: من أين قلت؟، فيقول: قال لي عبدالله بن مسعود، فيسأل عبدالله، فإن قال: نعم، خلّي عن علقمة، ويقال لابن مسعود: من أين قلت؟ قال فيقول: قال لي رسول الله r ، فيسأل رسول الله r،  فإن قال: نعم، خُلّي عن ابن مسعود، فيقال للنبي r، فيقول: قال لي جبريل حتى ينتهي إلى الرب تبارك وتعالى.

فهذا الأثر، فالأمر جدٌ غير هزلٍ إذ كان يشفي على جنة أو نار ليس بينهما هناك منزل.

وليعلم أحدكم أنه مسؤول عن دينه، وعن أخذه حله وحرامه، كالذي حدثني أشهل بن حاتم عن ابن عون عن محمد قال: إن هذا العلم دين فلينظر امرؤ عمن يأخذ دينه.

(2) وحديث يراد به المذاكر، فإذا ذكرته عند أهل العلم لم يقبلوه منك حجة، وعبسوا في وجهك منكرين عليك فيشغلكم طلب هذا عن حفظ كثير مما يعنيكم من التفقه في حديث الأعلام الذين هم الأئمة؟.

ولو نبذتم هذا وأقبلتم على حديث أولئك خفّت مؤونتكم وأعنتم على حفظه والتفقه فيه.

ولا أحسب يعدل غداً إذا مُحصّنا وسُئلنا في الموقف بين يدي الله عن الحجة فيما سعينا فيه من أمر ديننا: إسناد فيه رجلٌ زائغٌ عَنِ الحق متهم، ولا إسناد فيه رجلٌ مجهولٌ عند أهل العلم، وإسنادٌ نَيِّرٌ ليس فيه من يُغمز في الدين قناتُه، ولا يُقْرع في اتباع السنن صفاتُه، وإن قلّ ذلك، قال الله تعالى: [قُلْ لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ] {المائدة:100}.

ولا تصعروا بخدودكم إلى ما يبرق حائد عن هذه الطريقة أو يرعد بفلان وفلان فإنكم إن لزمتموها تحرزوا بها الغاية القصوى التي فيه درك الآخرة والدنيا.

ولا يغرنَّكم لوثُ من أدبر عنها وتولى إعجاباً منكم بسرده عليكم الأباطيل التي لا متون لها تنبعث، ولا أجنحة لها تُقِل، فإن الطريق نهج، والمأخذ مما حذيتموه نحوه قريب.

واعلموا أن قد استشرفكم النهم، وقد شملنا زيغ الفتن، واستولت علينا غشوة الحيرة، وقارعنا الذل والصغار، لما نرى في أنفسنا وفي العامة والخاصة من سُخْنة العين وما يخاف أن يكون طبع على قلوبنا بالرين، وقد اختلط بالأئمة المأمونين من أهل العلم غير المأمونين على دين الله، وزاحمنا في صناعتنا معادن الأبن، ومن حشو شغاف قلبه على الإسلام والمسلمين الغل والإحن، ساعيا في إهلاك عباد الله والإدغال في دين الله، واتبع كل امرىء -إلا من عصم الله تعالى منهم وقليل ما هم- ما سولت له نفسه وزين له الشياطين على ألسنة أشياعها من الإنس من سوء عمله، فلا ذائد يذود عن مراتع الهلكة ولا دافع يردع من قدح في زند الفتنة، فأورى نار الضلالة، ولا ذو شفقة ينبه من غلبت عليه سنة الغفلة، ولا ناصح قد شرى نفسه لله، والذب عن دينه، وسنة نبيه، فيَسم خرطوم كلَّ ذي بدعة سمةً يشيدُ بها ذكره، ويعلن بها أمره، ويحتسب في ذلك على الله حسن مثوبته، لعل الله برحمته يريح الأمة من زيغه وفتنته.

اللهم وقد استحصد زرع الأهواء المضلة، وبلغ نهايته واستغلظ سوقه، واستحكم عمومه وخرف وليده، واستجمع طريده، واستوسق وتبحبح في الآفاق، وضرب بجرانه، وأنت يا ربنا أولى من خلف نبيك في أمته، بأحسن الخلافة وأحق من تداركها، إذ فضلتها على سائر الأمم في كتابك فقلت: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}  فأتح اللهم بنور وجهك والحسنى من أسمائك للأهواء المردية بدلا من إتباع الكتاب ونعش سنن الرسول r، بإمرةٍ تصرع قائمه وتشهم سوقه، ولا تدع للأهواء التي لا ترضاها دعامة من رأس يعتمدونه إلا قصمتها، ولا ذا نباهة يستجنون بمنعته وجرأة جنانه بالإقدام على أهل الحق إلا أخملت ذكره، وأرحت منه عبادك، وطهرت من بليته بلادك، ولا تدع لها كلمة مجتمعة إلا فرقتها.

اللهم وكوّر شمس نهارها، وحط نوءها، وأمّ بالحق والسنة رأسها، وفُضَّ جيوش من افتتن بها، وأذعر قلوب أهلها، وأرنا أنصارها عباديد بعد ألفتهم لغير الله، وشتتْ ذات بينهم بعد اجتماع كلمتها على الضلالة، ومقنعي الرؤوس بعدما يرجون من الظهور، وأسفر لنا برحمتك عن نهار الحق، الذي بعثت عليه نبيك محمداً عليه السلام، وأرناه سرمدا لا ليل فيه، وأدِلْهُ ممن ناوأه حتى تجلي لنا عن غشوة الظلم، وبهم الحيرة، وتحيي به قلوبا ميتة، وتجمع به الأهواء المختلفة.

اللهم وقد عرفتنا من أنفسنا، وبصرتنا من عيوبنا، وما جنيناه اغتراراً وجهلا على أنفسنا، خلالا تقعد بنا عن اشتمال أجلنك، وحلاوة تحيتك، ونشر رحمتك، وتدارك أمة محمد نبيك، والإسعاف لفقرنا وفاقتنا، بالإجابة لدعائك، وأنت قديماً وحديثاً المتفضل على غير المستحقين، والمبتدىء بالإحسان بكرمك وجودك عن السائلين، فآتنا والعامة من أمة محمد r كرمك وجودك وتفضلك وإحسانك، فإنك تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا معقب لحكمك، ولا راد لقضائك.

اللهم وإن كان هوى من هوى الدنيا، أو فتنة من فتنها، أو حبل من حبالها، ليس لك فيه رضى، علق بقلوبنا حتى قطعنا عنك، أو حجبنا عن رضوانك حتى تنزل بنا سخطك ومقتك، وتفجأنا منها بسطوتك ونقمتك، أو هي التي تقعد بنا عن إجابتك، والجواز في كل أوان إليك، فاقطع اللهم- عنّا كل حبل من حبالها جذبنا عن طاعتك، أو اعترض بنا عن أداء وظائفك، أو مال بنا عن قصد سبيلك، الذي نهجته في كتابك، وسنن نبيك.

اللهم واجعلنا من القوام على أنفسنا بأحكامك، حتى تسقط عنا بحسن معونتك مؤن المعاصي بأخذك بنا إلى نعش كتابك، والاقتداء بمن جعلت لنا به الأسوة من سنة نبيك بالنواصي، واقمع اللهم- الأهواء المردية، والسنن الجائرة، أن يكونا مساورين لنا، غالبين علينا، أرنا الحق حقا نتبعه، والباطل باطلا نجتنبه، ثم هب لنا وطء آثار محمد r ، واللحوق به على سمت سبيله الذي نهج، وطريقه الذي أوضح، والمتبعين له على صراط مستقيم، الذي لم يزْوَر عنه يمنة ويسرة، آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

معاشر إخواني من أهل الحديث، ومقتبسي ما أورث الرسول r من سنة أهل الشأن، فلاحظوكم بأعين الحمد، وصعروا نحوكم بخدودهم، منافسة لكم بالحظوة، التي قسمها لكم الرحمن، عند العامة فبين ذي جهر معالن، ومستسر مداهن، وداخل في عدادكم والج في سوادكم، يرى مكثه بين أظهركم مدعيا لما ليست له عليه بينة، فطعنُه عليكم الحق الذي اتبعتموه أيسر كلفة، وعليه مؤنة فادحة لدينه، ولو قد أبدى لكم عن طويته، وكشط لكم عما يجن في سويداء خلده، وكشف عن قناعه، وباح لكم عن سوء دخلته، هجرتموه فلم يعمل فيكم سحره، ولم ينجح فيكم ما يلقاكم به، مصانعة لكم من شياعاته التي رتبها بالتمويه وخدع التشبيه، استيحاشا من انفراده، وإبقاءاً على أدنى ملابسته، فصبره على قرحته التي لا تندمل، وتزينه لكم بما يعلم الله خلافه على ملابستكم، أعظم فيكم جرحاً، وفي أديانكم نكاية.

فتوقوا إخواني هذه الطبقة أشد التوقي، فإن للبدعة رائحة تبدو إذا اشتمها ذووا الألباب، تأذى من رائحة عرفها، والمصرح ببدعته ظنينٌ لتهمته عليكم عند أقوام، مردود عليه دعاؤه لبدعته التي هو منسوب إليها، والمعرف كساه في غماركم أعظم فيكم شوكة، وأبلغ جرحا، فازوروا عند ملاقاتهم عنهم، وعبسوا في وجوههم، إعلاما منكم إياهم خلافهم، ولا تلقوهم ببسط الوجوه، فضلا عن المعانقة والمصافحة، إعراضا منكم عن كتاب الله، فإنه قال: [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] الآية{المجادلة:22} .

فاحترسوا منهم على معنيين:

(1) ديانة أولا.

(2) وصيانة لمذهبكم آخراً.

فإنهم بطانة سوء، لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدروهم أكبر، فلا يغركم استخذاؤهم إليكم ضرعا، فإن قلوبهم تغلي عليكم غلي المرجل الذي قد فار، غير أنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، كلما غابوا عن أعينكم فردوا أشتاتهم فيها، وحسبهم بهذا خزيا عاجلا إلى ما أعد لهم آجلا، انتهى كلامه رحمه الله.

وكلامه نافع مفيد في استحثاث المتساهلين في موالاة أهل البدع والرواية عنهم، والترهيب عن تمجيدهم وتكثير سوادهم فالزم به.

وكلامه هذا في ميدان الحاجة إلى الرواية، ونقل الأخبار، كيف وزماننا في جملته إنما المطلب فيه هو شرف الاتصال بسلسلة الرواية عن طريق مجرد الإذن بالرواية عن طريق الإجازة؟!.

فالكلام عندئذٍ أبلغ وأشد بالبعد والهرب عن أهل البدع، وقد ظهرت خطورة التساهل في هذا الباب من جوانب عدة، منها الخلط في أبواب (الحدود) و (الأسماء) و (الأحكام).

فعادوا علينا في التشكيك بأن هذا العمل بدعة أو ليس ببدعة!.

وإن قيل بأنه بدعة، عارضونا، وقالوا: ليس كلّ من وقع في بدعة يقال عنه مبتدع!.

وإن قيل بأنها بدعة مكفرة، عارضوا بقولهم: ليس كل وقع في الكفر يحكم بكفره!.

وباتت ترد أسئلة ومعارضات لم تكن تخرج من أفواههم من قبل كذلك تزيينا لأنفسهم لكي يرووا عن أهل البدع والضلال، والله المستعان.

بل منهم من داهن وباع من دينه ما يشتري به في سوق الإجازات، فلبس الخرقة، وتقلد السبحة، ورضي ذليلاً بشتم أهل السنة في مجالسهم كلّ ذلك ليخرج بورقة مكتوب فيها (أجزت فلاناً)، فإلى الله المشتكى!.

فإن قال قائل: نحن نقمش ثم نفتش!.

قيل: ليس هذا ببذل الدين، والمظاهرة لأهل البدع والتزوير والمين، وإذاعة هذا وإشهاره بين العالمين، فكان الناس من قبل يرون نتاج التفتيش لا نتاج التقميش، فليس كلّ من سمعوا منه حدثوا عنه!، واليوم نرى الصفو والكدر، وتعرض سلع أهل الإجازات وهم في مرحلة التقميش، بل ربما أشادوا بأشياخهم المبتدعة، وحثوا الناس إليهم، وفتنوا الجهال بالثناء عليهم، فيا رب رحماك رحماك.

وجملة القول: أن فتح الباب لكل أحدٍ بالرواية عن أهل البدع، والتساهل في ذلك مثلبةٌ عظيمة، وزلةٌ وخيمة، ومدخل شرٍّ يعود على الناس بالصرف عن دين الله تعالى، والله المستعان.

خاتمة مهمة

وفي الختام، أود أن أشير إلى أن ميدان أهل الرواية اليوم يفتقر وبشدة- إلى نقاد الرجال بعدل وإنصاف، فلا زلنا بحاجة إلى من تقوم به الكفاية في هذا الباب، فينقد الرواة رجلاً رجلاً بعدل وانصاف، مبيناً:

(1) سلامة دينه.

(2) وسلامة روايته.

وهذان هما المطلبان العظيمان في هذا الفن.

فلو تكرم أهل العلم والاتقان، بتصنيف الكتب في تمييز أحوال الرواة اليوم، والتفتيش عن سلامة مروياتهم، مع بيان سلامة دينهم من عدمه، فإن هذا من أعظم الجهود وأنفعها لأهل الحديث، مع الوصية الدائمة البليغة بالعدل والانصاف، ومعرفة الحق لأهله، وعدم التحامل على صاحب البدعة بما ليس فيه، فلا تغلب سلامة دين السني فتُزكى بها مروياته الساقطة، ولا يغلب فساد دين المبتدع فيرد به مروياته الصحيحة، فالعدل عليه قامت السموات والأرض، والظلم حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين عباده محرما، والله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} ، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه الفقير إلى ربه العلي

بدر بن علي بن طامي العتيبي

الرياض الخميس العاشر من شهر صفر 1430هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني