من المختارات لكم (96): فتوى في معنى قول: قدّس الله سرّه وحكمه

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم قول: قدّس الله سرّه
فقد سُئلت عن معنى قول: قدّس الله سرّه، وعن حكم قولها، فأقول:
معرفة المركبات مبنية على معرفة مفرداتها، ومعنى "قدّس" أي نزّه وطهر وبارك، ويجتمع التقديس مع التسبيح في: التنزيه من النقص والعيب، ويفترقان في أن التسبيح خاص بالله تعالى، والتقديس يكون لله ويكون لغيره، فالله تعالى: سبوح قدوس، ومن أسماء الله: القدوس، ويكون للمخلوق، فيقال: الأرض المطهرة، أي المقدسة، والبيت المقدس، أي المطهر.
قال العسكري "معجم الفروق اللغوية"(ص: 125): «والتقديس: تنزيه الشيء عن النقوص.
والحاصل أن التقديس لا يختص به سبحانه بل يستعمل في حق الآدميين.
يقال: فلان رجل مقدس: إذا اريد تبعيده عن مسقطات العدالة ووصفه بالخبر، ولا يقال: رجل مسبح، بل ربما يستعمل في غير ذوي العقول أيضا، فيقال: قدس الله روح فلان، ولا يقال: سبحه».
ثم بعد ذلك:
فيجوز أن يقال قدّس الله روحه، أي طهرها وزكاها، جاء في "معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1782): «قدَّس اللهُ فلانًا: طهّره وبارك عليه ° قدَّس اللهُ سِرَّه/ قدَّس اللهُ روحَه: دعاء لميِّت بالرّحمة».
ولكن السؤال: وما حكم قول: قدس الله سرّه، وما هو السر؟ فيقال:
السرّ من ألفاظ أهل السلوك والتصوف من حيث الأصل، ولا أعلمُ دليلاً ينص على أن للإنسان سراً غير معنى الروح، ولذلك الناس بعد ذلك متفاوتون في المراد به، ومنهم من يبين عن معنى حقٍ مقبول، ومنهم من يريد به معنى باطلاً مردوداً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "رده على الشاذلي" (ص148) لما ذكر السر: «فيقال هذا مبنيٌّ على إثبات ما بعد الروح وهو السر وآخرون يقولون سر السر وهم إن عَنوا به صفات روح الإنسان كان ممكنًا وإن عَنوا به جوهرًا ثابتًا فهذا باطل».
ومراده بالبطلان بطلان من زعم أن الإنسان ثلاثة جواهر: بدنٌ وروحٌ وسرٌّ، وهذا باطل، فالمرء بدن وروحٌ لا غير، والروح لها صفات ودرجات، فإن كان من أعلى درجاتها: درجة السر، فهذا ممكن كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولأهل العدل والانصاف من أهل السلوك معانٍ حقة مقبولة في معنى السرّ، ذكرها ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" (2/ 443 -444) فقال: «لفظ السر يطلق في لسانهم ويراد به أمور.
أحدها: اللطيفة المودعة في هذا القالب، التي حصل بها الإدراك والمحبة والإرادة والعلم، وذلك هو الروح.
الثاني: معنى قائم بالروح، نسبته إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، وغالبا ما يريدون به: هذا المعنى.
وعندهم: أن القلب أشرف ما في البدن، والروح أشرف من القلب، والسر ألطف من الروح.
وعندهم: للسر سر آخر، لا يطلع عليه غير الحق سبحانه، وصاحبه لا يطلع عليه، وإن اطلع على سره، فيقولون السر ما لك عليه إشراف، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق سبحانه.
والمعنى الثالث: يراد به ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وبين ربه، من الأحوال والمقامات. كما قال بعضهم: أسرارنا بكر. لم يفتضها وهم واهم.
ويقول قائلهم: لو عرف زري سري لطرحته... ».
فهو بهذا المعنى:
أعماق الأعماق، والإيمان الصادق في أصل القلب، وهو من أعلى مراتب التوحيد والعبودية، وعقد لها ابن القيم فصلاً في "مدارج السالكين" (3/ 161-162) فقال: «فصل: ومنها منزلة السر، قال صاحب المنازل: باب السر، قال الله تعالى: {الله أعلم بما في أنفسهم} [هود: 31] أصحاب السر: هم الأخفياء الذين ورد فيهم الخبر.
قوله أي الأنصاري-: «أصحاب السر: هم الأخفياء الذين ورد فيهم الخبر».
قد يريد به: حديث سعد بن أبي وقاص، حيث قال له ابنه: أنت هاهنا والناس يتنازعون في الإمارة؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» .
وقد يريد به: قوله صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره» ، وقوله في الحديث الآخر وقد «مر به رجل: فقال: ما تقولون في هذا؟ فقالوا: هذا حري، إن شفع أن يشفع، وإن خطب أن ينكح، وإن قال أن يسمع لقوله. ثم مر به آخر فقال: ما تقولون في هذا؟ فقالوا: هذا حري إن شفع ألا يشفع، وإن خطب: أن لا ينكح، وإن قال: ألا يسمع لقوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا» .... ».
فكلّ هذه المعاني من الحق الذي لا يرد إلا من جهة عدم ورود اللفظ، والاقتصار على الألفاظ الشرعية والواردة كـ: الروح، والقلب، والصدر، كقول الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، فهذا هو المشروع.
ولو قيل: قدّس الله سره بالمعنى الحق المراد فلا بأس، وقد نطق بها جملة من أهل العلم، وسمعته من شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يقوله مرة عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وزاد: ونوّر ضريحة.
ثم ليعلم أن للسرّ في لسان أهل التصوف والسلوك معنى آخر باطلاً يريدونه في أوليائهم ومشايخ طرقهم، ولهذا يكثر على ألسنتهم ويخصونهم بهذا الدعاء دون غيرهم! ويريدون بهذا السرٍّ عدة معان، منها: (التصرف في الكون) و(علم الغيب) ونحو ذلك من صفات الربوبية والألوهية، ويقولون: الله جعل سرّه في فلان، ويسمونهم: أهل الأسرار، ويقولون عن وليّهم: بحر العلوم وصاحب السر المكتوم، ونحو هذا، وهذا من الكفر بالله تعالى، وأقبح صور الشرك.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في "الرسائل الشخصية" (ص 76): «العرب الأولون يسمون الألوهية ما يسميها عوامنا: السر، لأن السر عندهم هو: القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يُدعى ويُرجى ويُخاف ويُتوكل عليه».
وهذا هو المعنى الذي أنكره شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في عقيدتهم الفاسدة، وألّبوا عليه هذا الإنكار، وأنهم لا يريدون هذه المعاني الباطلة، فقال رحمه الله في "الرسائل الشخصية"  (ص76): «ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم، فهذا وجه الإنكار، فبينوا لنا».
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن معناهم الباطل هذا : «والإله معناه الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه الفقير والشيخ، وتسميه العامة السيد؛ وأشباه هذا وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق عنده  منْزلة يرضى أن يلتجئ الإنسان إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله». قاله في "مجموعة رسائله" (1/364).
وقال رحمه الله كما في "الدرر السنية" (2/ 117): «إذا عرفت هذا، فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة، في زماننا: السر، والولاية; فالإله معناه: الولي الذي فيه السر; وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ; وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا; وذلك أنهم يظنون، أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزلة، يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله; فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم، هم الذين يسميهم الأولون: الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط».
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في شرحه لـ"كشف الشبهات" (ص: 98) عن حال عباد الأولياء: «اعتقدوا فيه السرِّ: يعني الألوهية ،مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، كعبد القادر والعيدروس؛ كاعتقاد أهل زماننا في غيرهم».
وقال شيخنا ابن باز رحمه الله في "فتاوى نور على الدرب" (2/ 93): «المنكر هو أن يدعو غائبا أو ميتا، أو إنسانا حيا لكن يعتقد فيه السر، أمورا ما يقدر عليها بطبيعته يعتقد أنه سر، وأنه إذا دعي مع الله، إذا سئل أن يغفر الذنوب، أو سئل أن يدخل الجنة، أنه يستطيع هذه الأمور لسر فيه، هذا هو المنكر ولو كان حيا».
تتمة:
إن كان المراد بالسر: التقرب لله تعالى بعمل الباطن! مع تعطيل عمل الظاهر، فهو من الكفر والزندقة، قال أبو الوفاء ابن عقيل: سمعت أبا يعلى ابن الفراء يقول: «من قال إن بينه وبين الله سراً فقد كفر، وأي وصلة بينه وبين الإله؟ وإنما ثم ظواهر الشرع، فإن عنى بالسر ظاهر الشرع فقد كذب؛ لأنه ليس بسر، وإن عنى شيئاً وراء ذلك فقد كفر"معجم المناهي اللفظية» (ص183).
ولهذه المعاني الباطلة، وبعداً عن موافقة أهل الباطل في باطلهم، يكون الأولى بأن لا يطلق هذا اللفظ، ويتجه إلى غيره من الألفاظ الشرعية النقية التي ليس فيها محاذير، ولا مشابهة لأهل الباطل في لسانهم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الخميس 28 صفر 1437هـ


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني