من المختارات لكم (110): تعال أخبرك ... يا كلباني

تعال أخبرك .... يا كلباني
من أين جاءت شروط لا إله إلا الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فقد عُرِضَ عليّ «تغريدات!» لعادل الكلباني ينكر فيها شروط لا إله إلا الله، وسبحان من لا يظلم ولا يرضى الظلم بين عباده، وكيف أنَّه في زمنٍ قريبٍ غَبَر كان يتهم أهل السنة بالإرجاء! فَأتى بِهِ اللهُ تعالى على أمّ رأسِهِ في الإرجاء الصَّريح القَبيحِ بلا مجازٍ ولا تَلْميح! فقالَ بأنَّ مجرد «قولِ» لا إله إلا الله يدخل الجنة بدون شرط وقيد! واستدلَّ في برنامج تويتر! بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قال أبو ذر: وإن زنى وسرق؟ وقال: وإن زنى وسرق رغم أنف أبي ذر».
ثم قال: «هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين رغم كل من لم يرضَ».
وقال: «لا أعلم من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شروطاً لها!».
وهذا قول المرجئة وهذا الحديث وما جاء في معناه من عمدة أدلتهم، وهو من استدلال المغرورين كما قاله الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في مسائل كتاب التوحيد عند حديث عِتبان! فليس مجرد الاحتجاج بالدليل يقضي بموافقة الحق، لأنَّ أهل البدع عامة لا يخرجون عن الاستدلال بما يوافق أهوائهم من الأدلة الشرعية من غير جمعٍ لكلِّ ما في المعنى، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض!
كالخوارج مع آيات التكفير والوعيد ويتركون آيات العفو والمغفرة، وبالضدِّ صنعَ المرجئة.
والمعطِّلة بنصوص التنزيه وتركوا نصوص الإثبات، وبالضد المُمَثِّلَة.
وكلُّ فِرقةٍ من الفِرقِ المنتسبةِ للإسلام يستدلون على ضلالاتهم بمتشابه النصوص، أو ببعضها دون بعض، فتكونَ الفتنةُ بهم أكثر، ولهذا حَذَّر منهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة - رضي الله عنها-: قالت: تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ علَيْكَ الكِتابَ منه آياتٌ محكماتٌ) - وقرَأَتْ إلى (ومَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الأَلبابِ) [آل عمران: 7] فقال: «فإذا رَأَيْتُم الَّذِين يَتَّبِعُونَ ما تشابَهَ منه، فأُولئكَ الذين سمَّى اللهُ فاحذَرُوهم» متفق عليه.
وهكذا صنع الكلباني -سامحه الله وغفر له وهداه إلى سبيل أهل السنة- فَعَلى ظاهرِ فَهْمِه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: لا حاجة للصلاة ولا للزكاة ولا لبقيةِ أركانِ الإسلام، ودعائم الدين!
فإن قال: هذه ثابتةٌ بنصوصٍ أخرى!
قيل: هذا «الانقياد» و«القبول» وهما من شروط لا إله إلا الله؛ وكما أخذت بهذين الشرطين من خارج النصوص، خذ ببقية الشروط من مجموع الأدلة.
والقول بصحةِ إيمان من جاء بالشهادة وترك كافة الأركان والعمل: أقبحُ أقوالِ المرجئةِ، ففيه تعطيلُ «توحيدِ القصْدِ والطَّلَب» وتَعطيلُ الإيمان من العمل، قال حنبل حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون : من أقرّ بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت: فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراُ بالفرائض واستقبال القبلة ؟! فقلت - أي الحميدي - : هذا الكفر الصراح  ، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلماء المسلمين، قال الله تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5] الآية ، وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله وردّ على أمره وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به عن الله. نقله شيخ الإسلام في "الفتاوى" (7/209).
ثم ليُعلم أنَّ القول بأن «لا إله إلا الله» تنفع بلا شروط! وإنما يكتفى بمجرد قولها والنطق بها قولٌ مخالفٌ لإجماع الصَّحابة، وذلك لما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قاتل المرتدين، فقال له عمرُ: كيف تُقاتِل الناس، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسل: «أُمِرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عَصَمَ مني مالَه ونفسه إِلا بحَقِّه، وحِسَابُه على الله؟» فقال أبو بكر: «والله لأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو مَنَعُوني عَنَاقاً كانوا يُؤَدُّونها إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ على منعها» قال عمر: «فوالله ما هو إِلا أَن رَأَيتُ أَنَّ اللهَ شرحَ صَدْرَ أَبي بكرٍ لِلْقتال فعرفتُ أَنَّهُ الحَق» متفق عليه.
فلم يكن مجرد قول لا إله إلا الله عاصماً لدمائهم لما أخلوا بشرط «الانقياد» لها ولما جاءت به، فكيف يقول الكلباني: «أن مجرد قولها يدخل الجنة بدون شروط؟».
فإذا عَرَف الكلباني أن قوله هذا قول متهورٍ متكبِّرٍ، وأنَّه مجردُ طيْشٍ لا يُرْشدُ إلى عَقلٍ راجحٍ، وعِلْمٍ راسخ، فإنني أتكلَّم باختصار عن شروط لا إله إلا الله، فأقول:
اتفق العلماء على أن هذا الحديث وما في معناه: مقيّدٌ بالإتيان بالمُقْتَضى والشَّرط، وليس مجردُ النطقِ بها كافٍ لدخول الجنة، روى ابن عساكر (74/64) عن الحسن أنه قال للفرزدق: وما أعددت للموت يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال: إنَّ للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة، يا أبا فراس كم من محصنة قد قذفتها، فاستغفر الله، قال: فهل من توبة أبا سعيد؟ قال: نعم.
وعند الأصبهاني في "الحجة" (2/158) : قيل للحسن إن أناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال: «من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة».
والحسن البصري فقيه التابعين، ومن مقدِّميهم، خيرٌ من ملء الأرض من عادل الكلباني.
وفي "صحيح البخاري" -مُعلَّقاً وهو في "التاريخ" وغيره موصولاً - عن وهب بن منبِّه أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: «بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح».
ووهب بن منبه من كبار التابعين المخضرمين، ومن الفقهاء الأعلام.
وقد وقع قول وهبٍ في حديثٍ مرفوع مرويٍّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي أهل كتاب فيسألونك عن مفتاح الجنة، فقل شهادة أن لا إله إلا الله، ولكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك».
وذكر المفتاح والأسنان يشبه قول وهب، ولذا قال الحافظ (3/ 109): «يحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ».
وفَهْمُ الإمام البخاري رحمه الله تعالى وأهل السنة للحديث المذكور فيمن كان آخر كلامه من الدنيا: «لا إله إلا الله» يخالف فَهْمَ الكلباني الإرجائي! حيث قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "الصحيح" (2/ 71): «باب ما جاء في الجنائز، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله» ثم ذكر أثر وهب بن منبه السابق، قبل أن يذكر هذا الحديث، تعليماً للجاهل، وتنبيها للغافل: بأنَّ مجرد النطق بها لا يكفي إلا مع الاتيان بشروطها ومقتضياتها.
ولذلك ذكر البخاري بعد حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو عن آخر قولٍ في الدنيا: حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقال البخاري: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق عن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار» وقلت أنا: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».
وهذا أوسع من مجرد القول والنطق، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وأنَّ لا إله إلا الله لا تنفع إلا مع الكفرِ بجميع ما يعبد من دون الله، وسلامتها من نواقضها.
قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/ 522): «وقال طائفة من العلماء: إن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة وللنجاة من النار، لكن له شروط، وهي الإتيان بالفرائض، وموانع وهي إتيان الكبائر».
والصواب في كلِّ ما جاء من مجرد النطق بلا إله إلا الله، وتلقينها الميت، وختم الحياة بها، كله مقيد بالشروط، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 340): «هو على عمومه ولكنه مقيد بشرائط كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع فإذا تكامل ذلك عمل المقتضي عمله وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله» ثم ذكره.
وقال ابن بطال في "شرحه للصحيح" (3/ 237) في تعليقه على قول وهب: «وقول وهب بن منبه: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك. فإنما أراد بالأسنان القواعد التي بُني الإسلام عليها، التي هي كمال الإيمان ودعائمه، خلاف قول الغالية من المرجئة والجهمية الذين يقولون: إن الفرائض ليست إيمانًا، وقد سماها الله تعالى إيمانًا بقوله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور: 62] واستئذانهم له عمل مفترض عليهم فسُمُّوا به مؤمنين كما سُمُّوا بإيمانهم بالله ورسوله».
وذكر أبو نعيم في كتابه "أحوال الموحدين الموقنين" أن أسنان هذا المفتاح في الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله تعالى وتأديتها، والمفارقة للمعاصي ومجانبتها.
قال ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (9/ 386): «وروي عن عبدالله بن معقل قال: كان وهب بن منبه جالساً في مجلس ابن عباس فسُئل: أليس تقول: إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال علي: وجدت في التوراة: ولكن اتخذوا له أسنانًا، فسمع ذلك ابن عباس فقال: أسنانه والله عندي:
أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، وهو المفتاح.
والثاني: الصلاة، وهو القنطرة.
والثالث: الزكاة، وهي الطهور.
والرابع: الصوم، وهو الجُنة.
والخامس: الجهاد.
والسادس: الأمر بالمعروف وهو الألفة.
والسابع: الطاعة، وهي العصمة.
والثامن: الغسل من الجنابة وهي السريرة. وقد خاب من لا سن له، هذا والله أسنانها».
ولم أجده مسنداً، ومعناه صحيح، ويوافق ما سبقه من أن لا إله إلا الله لابد لها من شروط وقيود تصح بها وإلا فلا تنفع صاحبها.
فالعلماءُ متفقون على أن هذا الحديث وما في بابه ليس على ظاهره، وهم بعد ذلك على طرقٍ في تأويل ذلك الحديث وما جاء في معناه، أشهرها طريقان:
أولهما: حمله على باقي النصوص، كما تقدم.
والثاني: اعتبار بعض ما جاء في معناه على أنه قبل أن تفرض الفرائض والحدود والأمر والنهي، فقد سئل الإمام الزهري عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» فقال: «إنما كان هذا في أول الإسلام قبل نزول الفرائض والأمر والنهي» أشار إليه الترمذي في "جامعه" (5/23) وأسنده الآجري في "الشريعة" (ص146) والخلال في "السنة" (4/90).
وكذلك الضحاك بن مزاحم: ذكروا عنده: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» فقال الضحاك: «هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض» رواه ابن بطه "الإبانة الكبرى" (2/ 896).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" (1/ 339): «وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن - من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي، والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله» وقوله: «لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله» وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة.
والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب يتضمن من معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته - من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علما ومعرفة ويقينا، وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار».
وأنشد ابن القيم رحمه الله تعالى في "النونية" مقتبساً ما سبق من معنى كلام وهب بن منبه وغيره:
هَذَا وَفتح الْبَـــاب لَيْسَ بممــكن        الا بـمـفتـــاح على أَسْنـَـــانِ
مفتاحه بِشَهَادَة الاخـــلاص والتـ         ـوحيد تِلْكَ شَهَــادَة الايمـانِ
أَسْنَانُه "الاعمـال" وَهِي شرائع الْإِ       سْلَام والمفتـــاح بالأسـنـــانِ
لَا تلغـــين هَـــذَا الْمِثَـــال فكم بِهِ         من حل إِشْكَال لذِي الْعرْفَـانِ
وتأمل قوله: «أسنانُه الأعمال» وهو الشق الثاني من التوحيد: «توحيد القصد والطلب» وهكذا هي شروط لا إله إلا الله، كلها من أعمال المكلف: عِلمُه ويقِينُه وقَبولُه وانْقِيادُه وصِدقُه وإخْلاصُه ومَحبتُه، فَكُلُّها أعمالٌ، فمن زعم أن لا إله إلا الله تصح بدونها، فقد زعم صحتها بدون العمل، وهذا هو عين قول المرجئة الضلّال.
وقفة:
ثم إنّ من علامة أهل الضلال والزندقة، وسخافةِ العقلِ، وبلادةِ الذهن: مقابلة النصوص الشرعية بالاستهزاء والسخرية، وهذا من دين المشركين الذين قابلوا دعوات الأنبياء بالاستهزاء والسخرية، وعادل الكلباني معروفٌ بالإغراق في الفُكاهةِ والمجونِ! وكان الجدير به وهو من حفاظ كتاب الله تعالى وقراءه- أن يلتزم الأدب والسكينة، فمن لم يهذب القرآن لسانه وأركانه فلا مهذّب له ولا مؤدب، ولما اعترض عليه بعض الكتّاب في تويتر بما سبق من قول وهب بن منبه، قال الكلباني: (المفتاح بصمة والا كرت!!) تهكماً واستهزاءَ، وهذه سقطةٌ وخيمة، ومقالةٌ ذميمة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد جاء ذكر مفاتيح الجنة في أحاديث في التوحيد والصلاة والجهاد وغيرها، وفي لا إله إلا الله جاء عن معاذ بن جبل وأنس بن مالك رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مفتاح الجنة، وسواء صحت هذه الأحاديث أو لم تصح، مقابلتها بالاستهزاء من الإجرام وبالغ الآثام، والله المستعان.
إذا عُلم ما تقدم؛ فإنَّ أهلَ العلمِ والسنة يصدرون الأحكام، ويضعون الشروط: بمجموع نصوص الشريعة، والنظر في مقاصدها، بخلاف أهل الأهواء، فيأخذون من النصوص ما يوافق أهوائهم ويتركون ما يخالفها، وشروط لا إله إلا الله، كشروط الصلاة والصيام والحج والعمرة وسائر العبادات، فالتوحيد: عبادة وتعبد لله تعالى، له شروط كما لسائر العبادات وشروطها، وشروط كافة العبادات لم تأتِ في نصٍّ واحدٍ من الكتاب والسنة، وإنما أخذها العلماء بعد جمع كلّ ما في المعنى، ولذا هم يتفاوتون في عدد الشروط من حيث ذكر الأهمية، والعدد، والمتفق عليه، والمختلف فيه، والصواب حليف من يوافق مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يقال: ليس للتوحيد أو الطهارة أو الصلاة أو الصيام وسائر العبادات شروطاً، هكذا بالنفي الجائر الذي لا يصدر إلا من جاهل بدين الله تعالى أو صاحب هوى.
وإنما له أن يميّز ما هو شرطٌ مما ليس شرطاً، فيقبل منها ويرد ما شاء بالدليل وحُسن الاستدلال.
أما أن ينفي الشروط على الإطلاق فهذا من ضرب الجهل والهوى، والله المستعان.
وعلى ما تقدم:
فلا إله إلا الله قد ذكر لها أهل العلم شروطاً ومقتضيات، من عهد الصدر الأول في الإسلام في متفرّق كلامهم، كما تقدم من كلام الحسن ووهب بن منبه وغيره، وكذلك الأئمة من بعدهم، فهذا الشافعي رحمه الله تعالى يقول فيما رواه عنه ابن عبدالبر كما في "الانتقاء" (ص79) عن الجارودي أنه رحمه الله ذُكر عنده إبراهيم بن إسماعيل بن عليه فقال: «أنا مخالف له في كل شيء وفي قول لا إله إلا الله لست أقول كما يقول أنا أقول: لا إله إلا الله الذي كلّم موسى عليه السلام تكليماً من وراء حجاب وذاك يقول لا إله إلا الله الذي خلق كلاماً أسمعه موسى من وراء حجاب».
فتأمل كيف لم يجعل مجرد قوله موجباً للسلامة والإسلام، والأمن والإيمان، لأن مخالِفَه لم يحقق معنى الانقياد واليقين بها وبما جاءت به.
وكذلك هي في نصوص الأئمة من بعد ذلك، وقد أكثر من الكلام عليها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، حتى جمعها الإمام عبدالرحمن بن حسن رحمه الله تعالى في سبعة شروط نصّ عليها، فقال رحمه الله تعالى في "فتح المجيد" (ص83): «لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها:
أحدها: العلم المنافي للجهل.
الثاني: اليقين المنافي للشك.
الثالث: القبول المنافي للرد.
الرابع: الانقياد المنافي للترك.
الخامس: الإخلاص المنافي للشرك.
السادس: الصدق المنافي للكذب.
السابع: المحبة المنافية لضدها».
وكذلك قال -كما في "الدرر السنية"- (2/ 246): «فلا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله والانقياد للعمل به ; وهي: كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة.
الأول: العلم بمعناها، نفيا وإثباتا.
الثاني: اليقين، وهو: كمال العلم بها، المنافي للشك والريب.
الثالث: الإخلاص، المنافي للشرك.
الرابع: الصدق، المانع من النفاق.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه، والسرور بذلك.
السادس: القبول، المنافي للرد؛ فقد يقولها من يعرفها، لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها، تعصبا، وتكبرا، كما قد وقع من كثير.
السابع: الانقياد بحقوقها، وهي: الأعمال الواجبة إخلاصا لله، وطلبا لمرضاته».
وفي مبلغ علمي أنَّ أولَ من ذكرها في مقامٍ واحدٍ هو الإمام عبدالرحمن بن حسن رحمه الله تعالى، لما عُلم عنه من مُجابهة المُرجئة في أغلب مؤلفاته، ومنها ردوده على عثمان بن منصور، وابن جرجيس، والجهمي الذي في بني ياس وغيرهم، وقد اهتمّ بهذه الشروط في شرحه المختصر على كتاب التوحيد والمسمى: «قرة عيون الموحدين».
وقد أشار إلى أولية الشيخ عبدالرحمن بن حسن في جمع هذه الشروط الشيخ سليمان بن سحمان فقال كما في "الدرر السنية" (2/ 359): «أما شروطها التي ذكر شيخنا: الشيخ عبدالرحمن بن حسن...».
وكلّها محل اتفاق بين علماء الإسلام، ولأنها استقرائية؛ فقد أضاف بعض أهل العلم إليها: «الكفر بجميع ما يعبد من دون الله».
وهو شرط داخل في "الإخلاص" لما يدل عليه من تجريد التوحيد، وقد ذكر هذه الشروط الشيخ إسحاق بن الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى نظماً في قوله:
لسبعة الشـــــروط في الشهادة        حتم علينا قبول ذي الإفادة
علم ينافي الجهـــــل واليقــين          إذا نفـــى للشـك يا فطين
كذا القبول إن نفـــــى للـــرد          والانقـيــــاد رابع في العد
وهو المنافي الشرك إخلاص الفتى         إذا نفى للشرك فافهم يا فتى
والصدق أيضاً المنـافي للكـــذب         محبــــة تنفي لضدٍّ فاحتسب
نقل ذلك الشيخ عبدالله البسام في "علماء نجد" (1/556).
وبعده نظمها شيخ مشايخنا العلامة سليمان بن سحمان في أبيات مطولة يقول في مطلعها:
ومن لم يقيــّدها بكــل شــروطها       ولــكـن عـلى آراء كــلِّ مـــلــدّدِ
فليس على نهــج الشــريعة سالكاً        من الجهل إن الجهـل ليس بمسـعدِ
ثم ذكره في أبياتٍ عدة.
ويقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله تعالى، وما أحسن ما قال:
وَبِشُرُوطٍ سَبْــعَةٍ قَــدْ قُيّـِـدَتْ      وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ حَقًّا وَرَدَتْ
فَــــإِنَّــهُ لَمْ يَـنـْـتَـفِعْ قَـائِلُـهـَا       بِالنُّــطْقِ إِلَّا حَـيْـثُ يَـسْتَكْمِلُهَا
الْـعِــلْمُ وَالْيَـقِـينُ وَالْـقـَبُـولُ        وَالِانْــقِـيَــادُ فَـــادْرِ مَـا أَقُولُ
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّهْ         وَفَّـــقَــــكَ اللَّهُ لِمَـــا أَحَـبَّـــهْ
وأختصر ذكرها غيرهم فقال:
علمٌ يَقِيْنٌ وَإِخْلَاصٌ وَصِدْقُكَ مَعَ         مَحـَـبَّةٍ وَانقـيـادٍ والـقَبـول لهَا
وسمعتُ شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يقول: وزاد الشيخ سعد بن حمد عتيق الثامن فأنشد:
وَزِيدَ ثَامِنُهَا الْكُفْرَانُ مِنْكَ بِمَا              دونَ الإلهِ مِنَ الْأَوْثَانِ قَدْ أَلِهَا
ولا تثريب على من زاد بالدليل وحسن الاستدلال، ومن يعارض فليتكلم بالدليل لا بمجرد الدعوى وهذر الكلام، ولهذا لو قيل للكلباني:
هل تنفع لا إله إلا الله بدون علمٍ بمعناها؟
وهل تنفع لا إله إلا الله مع الشك في ألوهية الله؟
وهل تنفع من المنافق؟
وهل تنفع ممن يكرهها ويكره الله ويكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكره شرعه؟
وهكذا في بقية الشروط، ماذا سيكون جوابه؟ فإن أجاب بالنفع في ذلك كله، فقد نادى على نفسه بالإرجاء ومخالفة إجماع علماء المسلمين.
وهذه الشروط إنما جاء بها أهل العلم بالدليل، وحُسن الاستدلال:
أما الشرط الأول: وهو (العلم) المنافي (للجهل) فلأن الله تعالى لا يُعبد بالجهل، ولن يُعبد بالجهل، والله تعالى يقول: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ) [محمد:19] فلو كان المطلوب من البشر مجرد قولها لقال: «فقل!» ولكن الله تعالى أمر بالعلم بها ومعرفتها.
قال ابن هبيرة: «قَوْله: شَهادة أَن لَا إله إِلَّا الله، يَقْتضِي أَن يكون الشَّاهد عَالما بِأَنه لَا إله إلَّا الله. كما قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) [محمد:19]».
وهل تصح الشهادة والإشهاد على أمرٍ لا يُعلم؟
ومثله قوله تعالى: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود: 14].
ومثله قوله تعالى: (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [إبراهيم:52] الآية.
وهذا أمرٌ بالعلم بألوهية الله تعالى، وهو حقيقة: لا إله إلا الله.
والمراد بالعلم: العلم بمعنى لا إله إلا الله وبما لا تصح إلا به من أصول الدين.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة».
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/ 253): «وفي قوله في هذا الحديث: «وهو يعلم» إشارة إلى الردّ على من قال من غلاة المرجئة: إن يُظهِرَ الشهادتين يدخل الجنة، وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله: «غير شاك فيها» وهذا أيضاً يؤكد ما قلناه».
أما الشرط الثاني: (اليقين) بسلامة معناها المنافي (للشك) فالشاك ليس بمؤمن، ولا مصدّق، والدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) [الحجرات: 49] الآية، فذكر الله تعالى عدم الريب والشك قيداً في صحة الإيمان فدلّ على أن اليقين: شرطٌ لا يصح الإيمان إلا به، وأصل الإيمان: لا إله إلا الله.
وفِي الصَّحِيح عَن أبي هريرة قَالَ: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أَنَّ لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله لَا يلقى الله بهما عبد غير شَاك فيهمَا إِلَّا دخل الْجنَّة».
وتقدم قريباً قول القاضي عياض عن هذا الشرط.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة في حديث الحائط: «اذْهَبْ بنعلي هَاتين فَمن لقِيت وَرَاء هَذَا الْحَائِط يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله مُسْتَيْقنًا بهَا قلبه فبشره بِالْجنَّة».
قال النووي في "شرح مسلم" (1/ 149): «واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ونطق بالشهادتين فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك».
والشرط الثالث: (الصدق) في قول هذه الكلمة والعمل بمقتضاها وما لا تصح إلا به، والمنافي (للكذب والنفاق) والمنافقون قومٌ يظهرون الإسلام والشهادتين والعبادات الظاهرة، وهم كاذبون في الباطن، فدل على أن مجرد قولها لا يكفي إلا مع (الصدق) بها لوجه الله تعالى، لا لكسب خير دنيوي، ولا لدفع شر، وقد قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:8-10].
فهل أغنى عنهم مجرد (قولهم): آمنا بالله واليوم الآخر من الله شيئاً؟
ويقول الله تعالى عن المنافقين: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ) [النساء:81].
قال القرطبي في "تفسيره" (5/ 290): «وفي هذه الآية أن مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا، فإنهم قالوا: طاعة، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها، لأنهم لم يعتقدوها، فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها».
وجاء في حديث عِتبان في "الصحيحين": «فإن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله».
قال النووي في "شرح مسلم" (1/ 244) عن قوله صلى الله عليه وسلم: «يبتغي بها وجه الله»: «وفي هذه الزيادة رد على غلاة المرجئة القائلين بأنه يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد فإنهم تعلقوا بمثل هذا الحديث وهذه الزيادة تدمغهم».
وقبله قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/ 267): «فهذه الزيادة تُخرِسُ غلاة المرجئة».
ومثل ذلك في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي وعد بالتزام أركان الإسلام لا يزيد عليها ولا ينقص: «أَفْلح إِن صدق» والحديث متفق عليه.
فدل على أنه إن لم يصدق فيما قال: لن يفلح.
وثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، إلا حرمة الله على النار».
والأدلة في المعنى كثيرة.
والشرط الرابع: (المحبة) لهذه الكلمة ولما جاءت به، المنافية (للكره) لها ولما جاءت به.
والمحبة ركن التوحيد، عليها مدار العبادة، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وعبادة الرحمن غاية حبّه     مع ذلّ عابده هما قطبانِ
قال ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص: 228): «اعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلت القلوب على محبته، وفطرت الخليقة على تأليهه، وبها قامت الأرض والسماوات، وعليها فطرت المخلوقات، وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تأله القلوب بالمحبة والإجلال، والتعظيم والذل له والخضوع والتعبد، والعبادة لا تصلح إلا له وحده، والعبادة هي: كمال الحب مع كمال الخضوع والذل، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله، والله تعالى يحب لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته».
وقد أجمع العلماء على أن من (أبغض) شيئاً جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كافر، قال الإمام محمد رحمه الله تعالى في "نواقض الإسلام": الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عمل به، كفر إجماعاً، والدليل قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:9].
والمشركون لا يحبون لا إله إلا الله، وتشمئز قلوبهم عند سماعها، كما قال تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر: 45].
الشرط الخامس: (القبول) لها، ولمدلولها، وما جاءت به ولو مشروعية السواك! وضد ذلك (الرد) لها، ولمعناها، ولما جاءت به.
قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51] .
ومفهوم الآية أن من لم يقبل، ويقابل الدعوة بالسمع والطاعة بالرد أنه ليس بمؤمن، كما قال تعالى عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء: 61].
وأيضاً يدل على شرطية القبول قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].
الشرط السادس: (الانقياد) لمعناها ومقتضاها، وضدّه (الترك) لها ولما جاءت به.
ومعنى الانقياد: الاستسلام، لتحقيق معنى العبودية لله تعالى، فالمسلم مستسلم عبدٌ منقاد لربّه عز وجل، وهذه أرقى مراتب البشر شرفاً، أن عبوديته لخالق الخلق أجمعين، ولذلك جعل الله تعالى الاستسلام له والإسلام علامة التسمك بالعروة الوثقى، التي هي: لا إله إلا الله، قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان آية22] .
وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النساء: من الآية125] .
وقال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر: من الآية54] .
أي واستسلموا وانقادوا له، فأنتم عبيده.
ويقول رسول الله صلى الله علي وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» رواه الضياء في "المختارة" قال النووي: «بسند صحيح».
الشرط السابع: (الإخلاص) لله تعالى في قوله لها، المنافي (للشرك) لأن القاعدة الكلية الإلهية: إخلاص العبادة لله تعالى وحده، كما قال تعالى: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص) [الزمر:3].
ويقول تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5] .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرَّم على النارِ من قَالَ لا إله إلا الله يَبْتغِي بِذلك وجْهَ الله» رواه البخاري.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» رواه البخاري.
فقوله: «خالصاً من قلبه» قيد، والقيد شرط، فلم يكن مجرد قولها موجبا للسعادة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
والشرط الثامن: الكفر بجميع ما يعبد من دون الله، وضده عدم البراءة من المشركين وآلهتهم ودينهم.
وقد ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ذلك قيداً في التمسك بالعروة الوثقى: «لا إله إلا الله» والقيد شرطٌ لصحة ما تقيد به، فقال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "مسائل كتاب التوحيد" معلّقا على هذا الحديث: «وهذا من اعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال؛ بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يرحم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه».
فهذه شروط لا إله إلا الله بأدلتها من الكتاب والسنة، ولا يخالف في ذلك أحدٌ من علماء الإسلام، ولم يخالفهم في ذلك إلا غلاة المرجئة.
قال الإمام عبدالرحمن بن حسن في "المورد العذب الزلال" كما في "الرسائل النجدية" (4/298): «ومن زعم أن المراد من لا إله إلا الله: مجرد القول، فقد خالف ما جاءت به الرسل والأنبياء من دين الله، واتبع غير سبيل المؤمنين، قال الله -تعالى- عن نوح -عليه السلام- أنه قال لقومه: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ)[نوح:2] فأجابوه بقولهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً) [نوح:23] الآية. علموا- على كفرهم وضلالهم- أنه لم يُرِدْ منهم مجرد الإقرار، وإنما أراد منهم الاتباع، والعمل، وترك عبادة الأصنام، وأخبر تعالى عن هود -عليه السلام- أنه قال لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:65] وذكر تعالى عنهم في جوابهم له: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) [الأعراف:70] علموا أنه أراد منهم قصر العبادة على الله، وترك عبادة من سوى الله، وهذا هو مضمون لا إله إلا الله ومعناها.
ولما دعا الخليل -عليه السلام- أباه إلى التوحيد بقوله: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم:42] أجابه بقوله: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ) [مريم:46] عرف أنه أراد ترك عبادة ما سوى الله، والرغبة عن ذلك إلى إخلاص العبادة لله وحده، ثم قال الخليل -عليه السلام-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي) [مريم:48]  فذكر مضمون لا إله إلا الله ولازمها.
كما ذكر تعالى مثل ذلك عن أهل الكهف في قولهم: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) [الكهف:16]؛ وقال تعالى عن صاحب ياسين: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يس:20-24]
وتأمل أيضا قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) [الصافات:35] عرفوا- وهم كفار- أن مطلوب النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: «لا إله إلا الله» أنه ترك عبادة الأوثان، فيا له من بيان ما أوضحه!».
وتأمل كيف أن كافة نصوص شروط لا إله إلا الله واضحة صريحة في كتاب الله تعالى، والكلباني من حفاظ كتاب الله! واحمد الله تعالى على نعمة الهداية، وأن العبرة ليست بمجرد الحفظ إن لم يكن فاهماً لمراد الله، ممتثلاً بما أمر الله به، ومجتنباً ما نهى عنه.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف
الثلاثاء 8 صفر 1438هـ



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني