من المختارات لكم (131): الليبراليون والملاحدة وصراخهم تحت وطأة شيخ الإسلام ابن تيمية


الليبراليون والملاحدة
وصراخهم الدائم! تحت وطــأةِ شيخ الإسلام  ابن تيمية
رحمه الله
تعقيب على مقال: (تهافت الدِّفاع عن ابن تيمية)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالصراع بين أهل الحق والباطل: رحىً لا تقف، وعاصفة لا تهدأ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويحشرهم الله إليهم جميعاً (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 173]، فهي براءة من الله ورسوله، وعباده الصالحين: إلى كلّ من حاد الله ورسوله، وصد عن السبيل، ولن يرضى أهل الضلال عن أهل الحق ولو طال بهم الأمد: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]، بل يوصي بعضهم بعضاً على ضلالهم، وعدوانهم في حق الله، واعتدائهم على أوليائه، (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118]، ويسعون إلى الصد عن دين الله تعالى، والتراجع عن ثوابته: ولو في الشيء اليسير، ومن تخلّف خطوة: تراجع ألف خطوة! ولذلك حذر الله نبيّه من طاعة أهل الضلال في (بعض) أهوائهم، كما قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: 48، 49]، وإن من أولياء الصادقين، وأئمة الإسلام الراسخين، شيخ الإسلام الإمام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الدمشقي رحمه الله تعالى، فإنه إمام هدى، وقدوة خير، ومجدد ملة، وأمة في رجل، اتفق أهل الفضل والعدل والفضل من المسلمين بكافة طوائفهم، وغير المسلمين: على فضله، وجلالته، وعلمه، وعقله، وصدقه، ونصحه، وعلو مرتبته، حتى جعلوا مآثره لهم مورداً، وكلامه لما يقولونه: حجة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4]، ولا يتجرأ على رفيع مكانته، وشريف منزلته: إلا أهل الضلال والزندقة والعناد، وكلهم -بشتى مذاهبهم- يوصي بعضهم بعضاً بالرد عليهم، والمشاغبة حول تقريراته، والحط من رتبته، منذ أكثر من ستمائة سنة! فما استطاعوا إلى حجب علومه سبيلاً، ولم يملكوا على إسقاط حججه دليلاً، فظلوا ولا يزالون- تحت وطأة قدمه ذلاً وهواناً إلى اليوم إلى يوم الدين بإذن الله العظيم، (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18]، ولا عجب: وهو الذي فتق بسهام حججه كبد كلّ صاحبٍ ضلالة، ولا يُعلم في تاريخ الإسلام من أول شروق شمسه إلى اليوم عالمٌ ردّ على كافة من خالف الدين كشيخ الإسلام ابن تيمية، فصد عن دين الله: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فرد على اليهود والنصارى، والمجوس والصابئة، وعبَّاد الهياكل والفلاسفة، والجهمية والمعتزلة، والرافضة والخوارج، والمجسمة وأهل الحلول والاتحاد،  والمرجئة وغلاة المتصوفة، بل حتى على أهل التعصب الفقهي، والتقليد المذموم، بل حتى على المخالفين في أصول المذاهب الأربعة، نزل بميدان كلّ مذهب، وصحح وقارن ونقد وردَّ، وبين صحيح أقوال الأئمة ومنصوصهم، وحقيقة أصولهم، ومن أصاب ووافق، ومن خالف وفارق، وكلّ ذلك ما بين عام 690 إلى عام 728هـ، في ثمان وثلاثين سنة، ادخر للأمة كل ما توارثه العلماء من علومه ومصنفاته إلى اليوم!
فهل سيحجب شمس علومه عن الناس: قصاصات مقالات العدو اللدود: «الحمود؟!»، أم هل تُبرد حرارة تغريدات! «الحمد» ما يحرق كبده من كمد؟ وهل تسري بين الأنام أكاذيب «الجفري؟»
كلّا والله: فقد مضت سنة الله في أممٍ من قبلهم: جعلهم الله في الأذلين، ومزقهم كلّ ممزق، وذابوا في مزبلة التاريخ، بقوة ربنا الله الذي يقول: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21] ويقول: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) [الأنبياء: 105، 106].
كلهم يذوبون، ويزولون، ويُغلبون: ويبقى (شيخ الإسلام) ابن تيمية رحمه الله تعالى بما وهبه الله تعالى من الحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله إذ يقول: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173].
كناطح صخــرةً يـومـاً ليوهنها       فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ
إن من أعظم ما تضيق به صدور الملاحدة والزنادقة اليوم: الكلام في موجبات الردة، وأحكام الحدود، وإباحة الدماء، فحربهم في هذا الباب ليست مع شيخ الإسلام ابن تيمية، وإنما حربهم مع كتاب الله تعالى، بل مع الله! ومع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق، ومع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأئمة الدين، والإسلام أجمع، وإنما اتخذوا شيخ الإسلام ابن تيمية (ميداناً) لحربهم، وتشكيكهم: لأنهم وهم تحت وطأته- سيجدون من كافة طوائف الضلال من يصفق لهم، ويؤيدهم، ويفرح بمذمته! ولذلك حين يكتب الصوفي الخرافي منتقدا شيخ الإسلام ابن تيمية: يصفق له: الملحد المريد، ويسوّق له: الزنديق العنيد! ويفرح بهم: الليبرالي البليد! ويسارع بعضهم لبعض، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 19 - 21].
إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أعدل أهل العلم طريقة في بابي: «الأسماء» و«الأحكام» ومسائل «القتل» و«القتال» و«مبيحات الدم» بين غلو الخوارج، وتفريط المرجئة، وحكم الظالمين، ولم يتكلم بمسألة واحدة من مسائل الدين إلا وله فيها -«بنصها» أو «بأصلها»- سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، فقول شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً: «يستتاب فإن تاب وإلا قُتل»، إنما يقوله في مواطن: «الردود» وهي تُعنى كثيراً بمسائل «الأسماء» و«الحدود» فيقتضي الحال والمقال بيان «اسم» المخالف في ذلك و«حكمه»، بينما يقل قوله ذلك في مصنفاته التقريرية التي لم يصنفها تأصيلاً للعلم من غير ردّ على شخصٍ أو طائفة، وما قاله شيخ الإسلام في ذلك كله هو قول من قبله من أهل العلم، ولكن أهل الباطل يعيدون أباطيلهم شغباً وعبثاً، (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر: 56].
ومع كثرة قول شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا القول: لم يُعرف أنه حمل السلاح على المسلمين، ولا كفّر مسلماً بغير بينة، ولا نزع يداً من طاعة، ولا سفك دماً حراماً، كما لم يكن هذا ممن جاء من بعده من أهل العلم والفضل، لأنه إنما يبين ما بينه العلماء في كتب الفقه والسنة، وما حكاه غيره مثله أو أكثر، ومقام الجميع: «مقام الفتوى، والتقرير العلمي» وإقامة الحدود، وتنفيذها، بيد ولاة الأمور، وأهل الحكم والقضاء، فإليهم يبث المفتي «حكم المسألة» مع بيان «ضوابطه» والحاكم والقاضي بعد ذلك له النظر في «إيقاعه» و«تنفيذه» و«استحقاق المعيّن» له.
وقد سبق أن كتبت في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية بعض المقالات منها في كشف أمثال هذه الشبه (موجودة في المدونة)، وكلها تدل على أن القوم إنما يتوارثون مقالة فاسدة، ويعيدون ضلالة هزيلة، فمن غرور المغفلين أن يقول أحد الحمقى في مقالٍ له نُشر مؤخراً يزعم فيه: (تهافت الدفاع عن ابن تيمية) ولم يأتِ في مقاله سوى بـ: التشفي من شيخ الإسلام ابن تيمية بلا بينة شرعية! ولا حجة عقلية يُركن إليها، وغاية ما في مقاله: التنمّر بأنه «تكلم في ابن تيمية» وتسلية نفسه بنشوة الانتصار الموهوم، ودعوى سقوط ابن تيمية، وضعف حجج أنصاره!
وليـس بـأول ذي هـمـة      دعتــه لما لـيـس بالنائل
   فقد سبقه إلى هذا المسلك أقوامٌ قالوا من قبل: «اعلُ هُبل» و«ولنا العزى ولا عزى لكم» فأذلهم الله وأعماهم، وأصمّهم وطبع على قلوبهم، وجعلهم في الأذلين، وقبلهم تيه فرعون بنفسه، وغروره بسحرته: فأرداه الله في الحضيض، (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 90 - 92].
فقول المغفّل عن أهل السنة، والمناصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية أنهم: «يدافعون عن قضية خاسرة» و«لضعف المدافعين وهزالة حججهم» والإتيان بشبهة المشركين من قبل: «يسفه أحلامنا» و«ويسفك دماءنا» فكذلك يقول هذا المتهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه: «أحد أهم مشرعي الإرهاب!» بالتهمة المجردة عن البينة! وكل ذلك من التهويل، ونفثات الموطؤ على غاربه! لينفّس عن نفسه لا غير! وإلا فالواقع خلاف ذلك، فإنما القضية الخاسرة قضية الزنادقة، والضعف والهزل في العري من الحجة والبرهان، ومروّج التهم بلا حجة ولا برهان، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مكافحة الإرهاب، والتهاون بالدماء، والترهيب من التكفير بغير حق كثير يضيق المقام بنقل كلامه في ذلك، ومن ذلك:
قوله في "مجموع الفتاوى" (3/ 229): «مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية».
وقوله في "منهاج السنة" (5/ 157): «فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم ; فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض
وقوله في "مجموع الفتاوى" (3/ 245-246): «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية. فأنا لا أتعدى حدود الله فيه. بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه»، إلى أن قال: «وإن أرادوا أن ينكروا بما شاءوا من حجج عقلية أو سمعية فأنا أجيبهم إلى ذلك كله وأبينه بيانا يفهمه الخاص والعام أن الذي أقوله: هو الموافق لضرورة العقل والفطرة وأنه الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأن المخالف لذلك هو المخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، فلو كنت أنا المبتدئ بالإنكار والتحديث بمثل هذا: لكانت الحجة متوجهة عليهم فكيف إذا كان الغير هو المبتدئ بالإنكار».
وقوله في "الرد على البكري" (ص: 252): «كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله.
وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضاً فإن تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يُكفر.
وقوله في "مجموع الفتاوى" (35/ 100): «فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات؛ وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض؛ بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم».
بل حتى مع أهل الذمة، والكفار يقول في عصمة دمائهم، وانتهاج العدل معهم مع ما نعلم ما في صدورهم من كره للمسلمين، وتمنى الإضرار بهم:
فيقول في "الصارم المسلول" (ص: 104): «فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق، وليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع، ولا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع ولا العقول، وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية، وبمنع الله المؤمنين من قتاله، ودماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى، وكدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك، وقد عدَّ موسى ذلك ذنبا في الدنيا والآخرة، مع أن قتله كان خطأً -شبه عمد- أو خطأ محضاً ولم يكن عمدا محضا».
ويقول فيه أيضاً (ص: 207): «وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر والشرك؛ فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة وإرادة السوء بنا وتمني الغوائل لنا، فإننا نحن نعلم أنهم يعتقدون: خلاف ديننا، ويريدون سفك دمائنا، وعلو دينهم، ويسعون في ذلك لو قدروا عليه، فهذا القدر أقررناهم عليه، فإذا عملوا بموجب هذه الإرادة بأن: حاربونا وقاتلونا؛ نقضوا العهد، كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة: من إظهار السب لله ولكتابه ولدينه ولرسوله نقضوا العهد، إذ لا فرق بين العمل بموجب الإرادة وموجب الاعتقاد».
فهذا الكلام ونحوه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في باب التكفير، وعصمة الدماء، وسلوك المنهج الوسط بين: غلو الخوارج، وسفّاكي الدماء، وأهل الإرجاء، وفاتحي أبواب الزندقة، وهاديه في ذلك ودليله ما جاء في كتاب الله تعالى، الذي جعله الله: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23]، ومن مثانيه: مثاني أحكامه، فكما:
أمر بالتوحيد: نهى عن الشرك، وأمر بالجماعة: وحذر من الفرقة، وأمر بالعلم: وزجر عن الجهل، وأمر بالاتباع: ونفّر عن الابتداع، وأمر بالطاعة: وحرم المعصية.
كذلك:
أمر الله تعالى برحمة الناس، ودعوتهم، وقبول أعذارهم: كذلك كفّر من يستحق الكفر، وأمر بالجهاد والقتال: في نصرة الدين، والدفاع عن النفس والدين، وأمر بالبراءة من المشركين ودينهم.
وهذا هو الأخذ بالمحكم من كلام الله تعالى، بالأخذ بكل ما في كتاب الله تعالى، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، ولذلك فالقضية الحق ليست هي قضية ابن تيمية مع هؤلاء الملاحدة، وإنما القضية:
قضية إلحادهم مع الإسلام، وأهواؤهم مع القرآن والسنة، وكل ما جاءوا بمقالة سوء، وألحقوا معرَّتها بشيخ الإسلام ابن تيمية: إنما يريدون به: اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، ولم يصرحوا بذلك: حقناً لدمائهم، وحجباً لسوءتهم عن أعين الناس، ولذلك ما جاء هؤلاء الملاحدة بشبهة من شبههم إلا وفي كتاب الله نقضها: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [الفرقان: 33].
فقول الجاهل المفتون: أنه إنما خصّ شيخ الإسلام ابن تيمية بالنقد لأنه: «ذو خطاب موسوعي، ورائج في الوقت نفسه، ومن ثمّ فهو الأشد خطر!..»، إنما هو من كذبه، وإلا من نظر وسبر، وحقق ودقق: يعلم يقيناً أنهم إنما يريدون «الخطاب الديني» و«الحكم الشرعي» و«الأصل القرآني» و«الدليل السني» و«الموروث السلفي» ولجلالة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يحسبون أن الدين سيهدم لو أنهم نالوا منه! وما علموا أن الدين: دين الله تعالى لا دين أحد من الناس، والسنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم لا سنة غيره، وأن الله قد أتمه وأكمله قبل أن يخلق شيخ الإسلام ابن تيمية، كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، ولذلك أصدق ما ينقض على هذا ومن على شاكلته بنيانهم وشبهاتهم: الرد عليهم بنصوص الكتاب والسنة، بل مبادرتهم بها، وإشهارها فوق رؤوسهم بدءاً من قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6، 7] وما في ذلك من البراءة من المشركين ودينهم، مروراً بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20، 21]، إلى قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون: 1 - 6].  
ثم ذكر الكاتب: فريةً هزيلة ما قال بها عالمٌ عارفٌ بأنَّ شيخ الإسلام إنما يتكلم بما تكلّم به لـ: «ضغوطٍ عصرية» أو «تقلبات نفسية» كردَّةِ فعلٍ مما عاناه من خصومه.
وكل هذا كذب وزيفٌ، ومن نسيجه، ونسيج الجهال أمثاله، وإلا فشيخ الإسلام أسمى وأرفع من أن يخضع لظروفٍ سياسية، أو ضغوطٍ عصرية، وهو من أهدأ الناس بالاً، وأوسعهم حالاً، وأكثرهم طمأنينة، حتى كان طلابه يأتون إليه فيتلو عليهم آيات الصبر، ويذكرهم بالسكينة، ويقوي عزائمهم بنصوص النصر، فتطمئن قلوبهم بذلك، وله جنة من الذكر والعبادة: عاش بها مطمئناً حتى وافته المنية عليه رحمة الله تعالى، وتقريراته، كانت صالحة لعصره وبعد عصره، واستفاد منها العلماء ويستفيدون- إلى اليوم حتى في علوم الفلسفة والاجتماع والسلوك، بل والهيئة والفلك، والنحو واللغة! ولكنْ:
العاقل المنصف؛ والعالم البصير: عندما يرى تقريرات عالمٍ في مسألة من مسائل «الأسماء» و«الأحكام»، يتطلب منه الحال النظر إلى: الطرف الآخر ممن وقع عليه «الاسم» و«الحكم»، وعلة تحقق ذلك فيه، وما يسمى بـ: «واقع القضية»، فالحال كحال: قضاء القضاة في خصومات الناس واختلافاتهم، فلكل قضيةٍ ملابساتها، وأحكامها، وظروفها، والحكم الشرعي حق في هذه وتلك، لا تناقض بين ذلك.
أما قول الكاتب المأفون أن اختلاف الواقع: «لا يعفي صاحب النص من أن يكون مسؤولاً عن نصه»، فهذا من حماقته، وبالغ سخافته، بل المسؤول، ومن يقع عليه اللوم: من يستخدم النص على غير وجهه، ويأخذ القول على غير مراده، وهذا كتاب الله تعالى المحكم المبين، والحق الواضح، أضل الله به من لم يرد الله تعالى به خيراً، لأنهم فهموه على غير تأويله الصحيح، كما هو حال الخوارج، وظهورهم كان قبل شيخ الإسلام ابن تيمية بستة قرون! ومن كتاب الله تعالى: فرقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء الصحابة، وأموالهم، وكفروهم بغير حق، ولم يكن حينذاك لديهم من دليل إلا آيات من متشابه كلام الله تعالى، فهل يرفع اللوم عنهم، ويلقى على كلام الله تعالى؟!
  وخلاصة القول:
أن مقال الهابط: هابطٌ؛ لا يستحق النَّظر، غير أنَّ من عظيمِ حكمة الله تعالى حين خلق الخير والشر، جعل في وقوع الشرّ: حكمة بالغة: بمعرفة الحق والخير في مقابل ذلك، والتمسك به، وبيان فضله، ونشره بين الناس، فكلما تكلم أهل الضلال بمقالة سوء: في أصل شرعي، أو عالمٍ سلفي، جاءت كتائب أهل الحق بالحق، ونشروه بين الناس، وأحيوا ما دُرس من معالم العلم، وأصول الدين، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الأحد 15 شوال 1441
الرياض

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني