من المختارات لكم (133): براءة الصنعاني من تراجعه عن الثناء على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب


براءة العلامة الصنعاني من التراجع عن الثناء على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب
وبراءتهما من تكفير المسلمين، واتفاقهما على تكفير المشركين
رحمهما الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه لما تجاوز بعضُ أهل الضلال في اتهام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى بالغلو في التكفير، وأخذوا بعض كلامه متوهمين أنه تكفيرٌ بالعموم! وأنَّ هذا مما انتقده عليه العلماء، ونسبوا هذا الانتقاد إلى عالم صنعاء الأمير الصنعاني، رأيتُ أن أنشر فصولاً قد كنت كتبتها في كتابي "ذيل إظهار العوار" وكذلك بعض مقالٍ لي سبق نشره في ملتقى أهل الحديث عن هذه الفرية، فقلتُ:
فصل
ثم قال الكاتب المفتون : «وكتب محمد بن عبد الوهاب في بيان منهجه ومذهبه مجموعة من الكتب والرسائل مثل  "كشف الشبهات" و "كتاب التوحيد" وغيرهما وهي ناطقة بتكفيره لجمهور المسلمين».
فيقال: وهذا كذب وبهتان؛ وليس في هذين الكتابين تكفيرٌ لأحدٍ من المسلمين فضلاً عن جمهورهم، وسبق أن ذكرت أن الإمام رحمة الله تعالى لم يحكم بكفر من لم يكفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم من قبله، وكتاب "كشف الشبهات" من أنفع الكتب في بيان الأصول الأربعة العظام التي خولف فيها الإمام رحمه الله تعالى من الكثير من علماء السوء -وهي حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك، وتكفير المشركين، وقتالهم- وقد دعم كل أصل من هذه الأصول بأدلة الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، فضاق عطن الكثير من المخالفين بهذا الكتاب ، وحملوا كلامه ما لا يحتمل من الوجوه، وألزموه بتكفير العموم، كما هو حال الكاتب المفتون هنا، والحمد لله على العافية .
وانتقد الكاتب قول الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: «عرفت أن التوحيد الذي جحدوه - أي كفار قريش - هو توحيد العبادة، الذي يسميه المشركون في زماننا "الاعتقاد" .. »، وقوله : «جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا »، وقوله : «وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي r لا أعرف معناه.. » ... » ونحوه .
فعظم على الكاتب وصف من تعلق بالصالحين بالشرك ، وقول المؤلف «المشركون في زماننا» و «أيها المشرك».
وليس على الإمام ملام في ذلك، فهو حكى حقيقة الحال، وهم مشركون بذلك بلا جدال، وذلك لاتفاق الحال بينهم وبين المشركين الأوائل، فكفار قريش أنكروا إفراد الله تعالى بالعبادة التي هي تجريد القصد لله تعالى دون سواه، وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [صّ:5]، وهذا القصد الذي يريدون صرفه لغير الله تعالى هو عينه ما يسميه المشركون في العصور المتأخرة حالاً وزمنا "الاعتقاد" على عبارة الكثير من خواص المتصوفة وعموم عامتهم، فيقولون: لي اعتقاد في الولي فلان، وفلان يعتقد فيه الناس، ونحو ذلك، والمراد التعلق القلبي به، ودعاءه من دون الله تعالى، والاتجاه إليه في طلب الحاجات ودفع الملمات!
وهذا عين شرك أبي لهبٍ وأبي جهلٍ، ومرتكبه مشرك كافر، وإن فعله أحدٌ من أمة محمد r كان به مرتداً، وبه يكون مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة ، وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية» متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» رواه البرقاني في  " صحيحه " وأصله في "صحيح مسلم" .
وقد وقع مصداق خبره عليه الصلاة والسلام، فشيدت البنايات على القبور، وعبدت الأضرحة من دون الله تعالى؛ والله المستعان.
وإن كان ثقُلَ هذا الكلام على مسامع الكاتب المفتون ، فاتخذه ذريعة للنيل من الإمام، واعتبار هذا من شذوذه عن العلماء، فليقرأ قول الشيخ محمد الأمير الصنعاني صاحب "سبل السلام" وهو عصري الإمام ومات قبله، فذكر في كتابه "تطهير الاعتقاد" من صور الشرك بالله تعالى الشيء الكثير، بل مذهبه أصرح وأقوى من مذهب الإمام محمد بن عبدالوهاب حيث نص على أن عباد القبور والمستغيثين بغير الله كفارٌ ، وأن كفرهم أصلي حيث أنهم نشئوا على هذا الدين وماتوا عليهم ، ولم يدخلهم في الإسلام أصلا ! ، فقال [ ص : 7 ] رحمه الله تعالى : «وكل قوم لهم رجل ينادونه:
فأهل العراق والهند يدعون عبد القادر الجيلاني.
وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون : يا زيلعي؛ يا ابن العجيل.
وأهل مكة وأهل الطائف: يا ابن العباس.
وأهل مصر: يا رفاعي؛ يا بدوي؛ والسادة البكرية.
وأهل الجبال: يا أبا طير.
وأهل اليمن : يا ابن علوان.
وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير و دفع الضر ، وهذه هو بعينه فعل المشركين في الأصنام»، فهذا تكفير لعباد القبور في العراق والهند وساحل تهامة ومكة والطائف ومصر وأهل الجبل واليمن وغيرهم فكيف يقال بأن الإمام محمد بن عبدالوهاب شذ في هذه المسائل ولم يوافقه أحد .
وقال العلامة الصنعاني رحمه الله [ص:8]: «فإن قلتَ: أيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء: مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام ؟ قلت: نعم؛ وقد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم».
بل قال الأمير الصنعاني رحمه الله ما هو أشد فقال [ص:8]: «فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلتُ: قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها ، وهذا دال على أنهم لم يعرفوا حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا».
فهل سيقول الكاتب المفتون بأن الصنعاني يكفر جمهور المسلمين؟!
وخذ قبل ذلك قول أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي وهو يصف حال الكثير مع القبور ويعلن تكفيرهم، كما نقله عنه جماعة أنه قال: «لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها وخطاب أهلها بالحوائج، وكتب الرقاع فيها : يا مولاي افعل بي كذا وكذا! وأخذ تربتها تبركًا وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى والويل عند هذا لمن لم يقبّل مشهد الكهف! ولم يتمسّح بالآجر يوم الأربعاء! ولم يقل الحمّالون على جنازته أبو بكر الصديق ومحمد وعلي، أو لم يعقد على قبر أخيه آزجًا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه ولم يرق ماء الورد على القبر» انتهى كلامه.
فهل سيقول الكاتب المفتون: بأن أبا الوفاء ابن عقيل الحنبلي يكفر جمهور المسلمين؟
وقد جمعت في مجموع "كشف الشبهات" جملةً من موافقات العلماء المعاصرين للإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، وخصصت بالذكر من عاصروه أو قاربوا عصره.
فصل
ثم قال الكاتب المفتون: «فيا ترى من هو ذاك المشرك الحذق الذي يستدل من القرآن والسنة، ويعيش في نجد؟ إنه كل شخص خالف ابن عبد الوهاب في عقيدته وبعض المسائل الفقهية كالتوسل، وهم علماء نجد وجمهور المسلمين من أتباع المذاهب الأربعة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون».
فيقال: نجدٌ وغيرها لا تدفع الشرك عمّن أشرك بالله تعالى إذا بدّل دين الله تعالى، وكفر بالله عز وجل، فالأرض لا تقدس الرجال، وقد عاش على أطهر البقاع أكفر خلق الله تعالى ، وعُبد حول بيت الله تعالى مئات الأصنام ، وكان عباد النار والصليب في مدينة رسول الله r قبل مهاجره، وقد أخبر النبي r أن من أمته من سوف يعود إليها الشرك وعبادة الأصنام كما تقدم .
وكان في نجدٍ من مشاهد الكفر الشيء الكثير كحال العديد من البلاد كما حكاه الصنعاني فيما تقدم، فيعكفون على قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه، وحصاة تاج وشمسان وفحل الفحول وغيرها، ويصرفون عندها العديد من العبادات التي لا تصرف إلا لله تعالى من: الاستغاثة وطلب الحاجات والطواف وتقديم القرابين، فلما أنكرها الشيخ عليه رحمة الله تعالى شكر له أهل العلم صنيعه كما أنشد الأمير الصنعاني قوله رحمه الله:
                       وقــد جــــاءت الأخـبـار عنه بأنه
                                    يعيد لنا الــشــرع الحنـيف بما يبدي
                       وينشر جهــراً ما طـوى كل جـاهلٍ
                                     ومبتـــدعٍ منه فوافــق مـا عـنــدي
                       ويــعــمـر أركـــان الشريعة هادماً
                                      يغــوث و ودٌ بئــس ذلـك مـن ودِّ
                       أعادوا بهـا مـعـنى ســواع ومثـــله
                                     مشاهد ضل الناس فيهــا عن الرشدِ
                       وقد هتفوا عند الشــــدائـد باسمها
                                     ومستلم الأركان منــهــن بالأيــدي
                       وكــم عـقروا في سوحها من عقـيرة
                                       أهلّت لغــير الله جهــراً عـلى عمــدِ
                       وكم طــائفٍ حــول القبــور مـقبل
                                        كما يهتف المضـــطر بالصمد الفــردِ
ويقول الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 5) في وصف نجدٍ وغيرها؛ ممن استجاب لدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب : «وبالجملة ، فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاته».
ويقول الشوكاني أيضاً - في وصف نجد قبيل دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (1/626): «وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية، وصار الإسلام فيها غريباً».
فهذا ما يحكيه الشوكاني بالتواتر، فهل هذا أيضاً تكفير لجمهور المسلمين أم هو حكاية واقع المشركين، والمسلمون من هذه الأعمال براء، حيث أن هذه الأعمال لا يعملها المسلمون ، ولا يسمى من عملها مسلماً أصلاً.
فصل
وما قاله شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب والعلامة الأمير الصنعاني هو عين الصواب، واتفاقهم في الحكم بتكفير عباد القبور وقتالهم يبطل قصيدة الرجعة المنسوبة للصنعاني، وقد أنكرها جماعة من أهل العلم، وصنف شيخ مشايخنا العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى في إبطالها كتاباً سماه "تبرئة الشيخين من تزوير أهل الكذب والمين" طبع عام 1343، ونظم في معارضتها قصيدة قال في أولها:
                       ألا قل لذي جـهــل تهـور في الردّي
                                            وأظهر مكنوناً من الـغـــيِّ لا يجدي
                       وقــال بتــزويرٍ و إفــكٍ ومـنـــكرٍ
                                             وظلم وعدوانٍ على العــالم المهــدي
                       وزوّر نــظــماً لـلأمــيرِ مـحـمّـــدٍ
                                              وحاشاه من إفك المزوّر ذي الجحـدِ
                       لعمري لقد أخطأت رشدك فــاتئد
                                                فلست على نهجٍ مــن الحــق مستبدِ
                       وقد صـحّ أن الـنـظـــم هذا مقول
                                                 تـقـوّله هذا الــغبي عــلى عــمــدِ
إلى آخر أبياتها في أربعمائة بيتٍ ونيّف .
ومن أعظم دلائل ذلك - زيادة على مناقضتها لكتابه " تطهير الاعتقاد " أنها لم تظهر إلاّ بعد مماته! بعكس الأولى ذاعت وشاعت في حياته، وسار بها الركبان في كل مكان، وقد تناقل الأئمة: سليمان بن عبدالله، وعبدالرحمن بن حسن، ومن ترجم للإمام محمد بن عبدالوهاب وغيرهم: ثناء الصنعاني؛ ولم يذكروا رجوعه، بل حتى الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله استشهد ببعض أبياتِها في كتابه "مفيد المستفيد"، والصنعاني مات قبل وفاته بأكثر من عشرين سنة، فلو ظهر منه تراجعاً لذاع ذلك وشاع، ولما سكت عنه أحد من الأئمة من دون ردّ وبيان خاصة وأن الحالة كهذه توجب الرد أولى من غيرها.
وقد ذكر الشيخ ابن سحمان أنّ "القصيدة " و" شرحها " فيها أحداثٌ لم تقع إلاّ بعد موت الصنعاني، فقال:
                       وكـل الـذي قـد قــال في النظم أولاً
                                                يعــود عـــلى الـقــول المــزوّر بالهدِ
                       لمن كان ذا قـلــبٍ خـلّيٍ مـن الهــوى
                                                 قد عاشر عصراً بعد ما قال في العـقدِ
                       ولم يـبــدِ رداً أو رجــوعاً عــن الذي
                                                تقدم أو طعــنـاً بأوضـــاع ذي الحقدِ
                       إلى أن تـقــضــى ذلك العـصر كــلّه
                                                  ولم يشتــهر مــا قيـل من كلّ ما يبدي
                       وتصديق ذا أن الـــذي قــال لم يكـن
                                                   ولا صار هذا القتل والنهب في نجــدِ
                       لمن بايعوا طوعاً على الدين والهـــدى
                                                   ولم يجعـلـوا لله في الــديــن مــن نـدِّ
فلا يغتر مغترٌ بما نقله الكاتب المفتون عن الصنعاني بأنه قال : «وصل الشيخ العالم مربد بن أحمد وله نباهة، ووصل ببعض رسائل ابن عبدالوهاب التي جمعها في تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونهبهم، وحقق لنا أقواله وأفعاله وأحواله، فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا، أو لم يمعن النظر، ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية، ويدله على العلوم النافعة، ويفقهه فيها»، وزعم كغيره بأنه قال هذا في كتاب سُمّي بـ "إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبدالوهاب" يشرح فيها قصيدة الرجعة التي قيل بأن مطلعها:
                       رجعت عن القول الذي قلت في النجدي
                                               فقــد صــح لي عنـه خلاف الذي عندي
وهذه فرية بلغ مختلقها في الحماقة منتهاها، وظن أنه يناقض بذلك عقيدة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وما علم أنه بذلك يزعم رجوع الصنعاني عن تقريراته في "تطهير الاعتقاد" و "قصيدته" الأولى .
فمن تأمل في القصيدة الرجعية! وقابلها بما في القصيدة الأصلية، وكتاب الصنعاني "تطهير الاعتقاد"، علم بطلانها وزيفها.
وعلم أن قوله المنسوب إليه نظماً بأنه قال:
                       وقــد جـــاء مـن تأليفه برسائلٍ
                                                         يكفر أهل الأرض فيها على عمدِ
وما سبق نقله من "تطهير الاعتقاد" يفسد هذا، ولم يجاوز الإمام محمد بن عبدالوهاب كلام الصنعاني في عبادة القبور في عـصره، بل سبق الإشارة إلى أن تقرير الصنعاني أشد وأقوى من حكم الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله ، فإن كان الإمام محمد بن عبدالوهاب يرى تكفيرهم بعد إيمانٍ كانوا عليه، فالصنعاني يرى أن كفر عُبَّاد القبور من الكفر الأصلي.
فقال العلامة الصنعاني في "تطهير الاعتقاد" [ص:23]: «فإن قلتَ : هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه. قلتُ: قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها ، وهذا دال على أنهم لم يعرفوا حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ) وإخلاصها له (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : 5] ومن نادى الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا وخوفا وطمعا ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر : 60] بعد قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)... ».
فيقابل الناقد العدل هذا الكلام بالقول الملفق السابق وينظر مدى الفرق بينهما، ومثله قوله في القصيدة المزورة الرجعية:
                       تجــارى عـلى إجراء دمـا كل مسلم
                                                          مصلً مــزكًّ لا يحــول عــن العهدِ
                       وقـد جـــاءنا عـــن ربنــا في براءة
                                                           براءتهم عن كل كفــــر وعن جحد
                       وإخوانـنـا سمــاهم اللّه فـاستمــع
                                                           لقـول الإِلـه الواحد الصمد الـفـرد
                       وقـد قـال خيـر المرسلين نهيت عن
                                                            فمـا باله لـم ينته الرجــل النجـدي
                       وقال لهـم لا مـا أقامـوا الـصلاة في
                                                             أناس أتوا كـل القبــائح عــن قصد
                       أبن أبـن لي لِـمْ سفكـــت دمـاءهم
                                                         ولمْ ذا نهبـت المال قـصـداً على عمـد
                       وقـد عصمــوا هذا وهــذا بقول لا
                                                          إله سوى اللّه المهيـمــن ذي المـجــد
                       وقــال ثـــــلاث لا يحـل بغيـــرها
                                                          دم المسلم المعــصوم في الحل والعقـد
فهذا الكلام يقابل بما في "تطهير الاعتقاد" حيث قال [ ص : 24 ]: «فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين.
قلتُ: إلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، فقالوا: يجب أولا دعاؤهم إلى التوحيد وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر لا يغني عنهم من الله شيئاً وأنهم أمثالهم وأن هذه الاعتقاد منهم فيه شرك لا يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقاداً وعملا لله وحده، وهذا واجب على العلماء، أي بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم، عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم. فإذا أبان العلماء ذلك للأئمة والملوك وجب على الأئمة والملوك بعث دعاة إلى الناس يدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله، فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله r من المشركين».
وهذا واضح ينقض تلك القصيدة المزورة الرجعية ، قبح الله واضعها .
والكلام عن أوجه كذب هذه القصيدة وشرحها كثيرة جداً ، يطول ذكرها في هذا الموطن، ولو كان هذا التراجع  ثابتاً عن العلامة الصنعاني فيجاب عنه بجوابين:
الأول: الإعذار - مع غض النظر عما فيها من أخطاء- .
والثاني: الإنكار لما تنكب عن رأيه .
أما الإعذار: فلأنه تراجع بناء على فرية من نقل إليه الأخبار مزيفة، وادعى زوراً وبهتاناً أنّ الإمام محمد بن عبدالوهاب يقتل المسلمين ، وينهب أموالهم بغير حق ، وهذا كله كذب وبهتان .
وأما الإنكار: فعندما يكون تراجعه عن سابق مبدئه ، ويخالف ما دونه في كتابه "تطهير الاعتقاد" ، والحق مع الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في تكفير المشركين وقتالهم ، وفي هذا أنشد الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله قوله:
                       فليس بمعصومٍ ولا شــكّ أنّه
                                                    بذلك قد أخطأ وجاء بما يُردي
وللفائدة:
ليُعلم أن قصيدة الصنعاني في الثناء على الإمام أنشدها عام (1163هـ) ، كما صرّح بذلك في "ديوانه " [ص:138]، فقال : «لما طارت الأخبار بظهور عالم في نجد يقال له: محمد بن عبدالوهاب، و وصل إلينا بعض تلاميذه ، وأخبرنا عن حقائق أحواله ، وتشميره في التقوى ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اشتاقت النفس إلى مكاتبته بهذه الأبيات سنة 1163هـ ، وأرسلناها من طريق مكة المشرفة ...».
وكتابه "تطهير الاعتقاد" ألفه عام ( 1164هـ) ، كما في كتاب "مصلح اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني" [ص:117].
وقد حاول هذا الكاذب إحكام هذه الفرية، وتركيبها بقوله في شرحها على لسان الأمير الصنعاني : «لما بلغت هذه الأبيات نجداً وصل إلينا بعد أعوام من بلوغها رجل عالم يسمى الشيخ مربد بن أحمد التميمي كان وصوله في شهر صفر عام ست وسبعين ومائة وألف ( 1176هـ(1)) ، وأقام لدينا ثمانية أشهر وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه وفارقنا في عشرين من شوال ، سنة رجع إلى وطنه وصل من طريق الحجاز مع الحجاج وكان من تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي وجهنا إليه الأبيات ، وأخبرنا ببلوغها ولم يأت بجواب عنها ، وكان قد تقدم في الوصول إلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها من سفك الدماء ونهب الأموال وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفيره الأمة المحمدية في جميع الأقطار».
وهذا الكلام كذب محض، ويدل على أن مربداً له يدٌ في حبك هذه الكذبة وتلفيقها على لسان الصنعاني، قال شيخ مشايخنا ابن سحمان رحمه الله تعالى في كتابه المذكور: «فاعلم أن هذا الرجل الذي يسمى مربد بن أحمد رجل من أهل حريملا لا يعرف بعلم ولا دين ولا كان من تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ولم يكن له قدم صدق في هذا الدين ولا معرفة له ، بل كان ممن شرَق بهذا الدين لما أظهره الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً وكان قد ألِفَ ما كان عليه قومه من الشرك بالله من دعاء الأولياء والصالحين وغير ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية ، وداخله بعض الحقد والحسد فأوجب له ذلك تلفيق ما موه به من الأكاذيب والترهات على الشيخ محمد رحمه الله وفرّ إلى صنعاء لما دخل أهل نجد في دين الله ، ولم يكن له في نجد مساعد على هذه الأكاذيب ، وكذلك الرجل الآخر المسمى بعبد الرحمن النجدي لم يكن من أهل العلم والدين ولا يعرف له نسب ينتمي إليه بل كان من غوامض الناس الخاملين وقد انقرض عصر الدرعية وبعده بأعوام لم نسمع لهذين الرجلين بخبر ولم نقف لهما على أثر وكان قد دخل أهل اليمن في ولاية المسلمين وعرفوا صحة هذا الدين ولم يشتهر هذا النظم عن الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله ولا هذا الشرح ولا ثبت هذا الرجوع عنه ولا ظهر ولا اشتهر في تلك المدد المديدة والسنين العديدة ، حتى جاء هذا المزور فوضع هذه المنظومة وجعل عليها هذا الشرح اللائق به ، فلله الحمد وله المنة حيث كان نظامه واعتراضه بهذه المثابة».
وجاء في شرح تلك القصيدة المزورة قوله : «وذُكر لي يعني مربداً أنه إنما عظم شأنه بوصول الأبيات التي وجهناها إليه».
وهذا كلام باطل؛ ينقضه وجوه كثيرة من أبرزها:
أن ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب شائع ذائع قبل قصيدة الصنعاني، بدليل أن أخبار دعوته بلغت صنعاء اليمن حتى شكرها الصنعاني وأثنى عليها، فشأن شيخ الإسلام عظيمٌ من قبل عليه رحمة الله عز وجل، مع ما في القصيدة الصادقة من ظهور أمر الإمام محمد بن عبدالوهاب، وتجديده للدين، ومبالغة الطوائف المنحرفة في رد قوله ، وهذا كله دليل على ظهور دعوة الإمام ورواجها بين الناس.
ومنشأ وهم بعض فضلاء العلماء ممن نسب هذه القصيدة إلى الصنعاني، وراجت عليه الفرية: ما ذكره الشوكاني في كتابه "الدر النضيد" ونسبته لهذه القصيدة وشرحها للصنعاني، ونقل كلام الشوكاني برمته صديق حسن خان في "الدين الخالص" ولم يصيبا في ذلك، وغلّظ الشوكاني في الإنكار على قول الصنعاني المزعوم، مع أن الصَّنعاني يقرر الحق في كتابه "تطهير الاعتقاد" تقريراً أحسن من تقرير الشوكاني، وقد أوضحت هذا بالمقابلة بين كلاميهما في غير هذا الموطن، فكلّ من صدّق نسبة قصيدة التراجع إلى الصنعاني فهو مقلّدٌ للشوكاني، والشوكاني أدرك من حياة الصنعاني عشر سنين! ولم يلتقِ به، ولم يذكر ما يثبت صحة نسبة القصيدة والشرح إلى الصنعاني، فهو ومن تبعه مطالب بإثبات النسبة، مقابل: اليقين من صحة نسبة الدالية الأصل مع كتاب "تطهير الاعتقاد" للصنعاني.
تم نقل المراد من كتابي "ذيل إظهار العوار" والمقال المشار إليه، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الأحد 29 شوال 1441
الرياض




(1) تأمل هذا ، وقف على ما ذكره الشيخ البسام رحمه الله في " علماء نجد " ( 6/420 ) من أنه توفي عام 1171هـ !! .

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني