من المختارات لكم (88): جناية محمد بن الحسن الددو على مذهب السلف

جناية محمد بن حسن الددو على مذهب السلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد أطلعني بعض الفضلاء على مقطع مرئي للشيخ محمد بن حسن الددو الشنقيطي، خَلَط فيه في "مذهب السلف" وحقِّه علينا، وتكلَّم بكلام سيءٍ للغاية، وهو موجود على هذا الرابط: (https://www.youtube.com/embed/FsdBmDpTTP4).
وسوف أنقل كلامَه بكماله، ثُمّ أعلّق عليه بما يلزم، فقال في سياق كلامه عن بعض الأفكار التي «فيها جزافية» على حدّ تعبيره، وأنَّ «هذه الأفكار نشأ منها الغلو والتطرف» ثم قال: منها مثلاً: تمجيد السلف تمجيداً مطلقاً، يقال: هذا مذهب السلف، وإذا عرف السلف؛ نقول: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والمهاجرون والأنصار والتابعون، وأتباع التابعين؛ هؤلاء هم السلف، لكن يكون هذا سفسطة، والسفسطة؛ هي: ان يكون طرفا الدليل صحيح لكن التركيب خطأ، فالمذهب نسبته للسلف، بمعنى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا غير صحيح، ليس لهم مذهب! المذاهب: اختراع ناشئ عن الحاجة، في كلّ اختراع، لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين، أول ما نشأت المذاهب في عهد أتباع التابعين، فهم الذين نشأت المذاهب في زمانهم، فلذلك لا يأتي أحد فيقول: مذهب السلف معناه مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين هذا غير صحيح، ما لهم مذهب، مذهب السلف إذا أطلق لدى المتكلمين والذين يتكلمون في العقائد يقصدون به مذهب أتباع التابعين!!! ولا يقصدون جميعهم، وفي كلّ عصر فيه اختلاف، إذا أردنا مثلاً أن نسمي السلف الصحابة مثلاً، سنجد مذاهب هكذا- أقوالهم مختلفة في كثير من الأمور لم يتفقوا فيها منها أمور عقدية، كالخلاف هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج أو لم يره بعيني بصره؟ هذا خلاف بين الصحابة.
الخلاف: هل المعوذتان من القرآن، هذا خلاف بين الصحابة، هذا خلاف عقدي، الخلاف السياسي بينهم أيضاً قائمٌ، وكذلك الخلاف السلوكي بين أبي ذرٍ وعثمان مثلاً وهكذا.
هذه خلافات قائمة بين السلف، لكن الذي ينظر إلى السلف من وجه واحد ويرى أنهم طبعة واحدة، وأنهم جميعاً متفقون في كلّ شيء، هذا يقع في غلطٍ فادح، الصحابة الكرام، وهم أهل الجنة لم يتفقوا في كثيرٍ من المسائل، كل المسائل الاجتهادية لا يطلب أصلا أن يتفقوا فيها، ولا يطلب أن يكون كل فرد منهم طبعة ، نسخة طبق الأصل من الآخر، بل بضرورة عقولهم واختلاف مستوياتهم يختلفون، والذين وصلوا إلى مستوى الاجتهاد من الصحابة، ورويت عنهم الفتوى عدّهم ابن حزم فأوصلهم إلى ثمانية عشر، وعدهم النسائي فأوصلهم إلى اثنين وعشرين، ولم يتجاوز ذلك، والذين وصلوا إلى الاجتهاد من التابعين أكثر من ذلك بالضعف تقريباً، أتباع التابعين كثر فيهم الاجتهاد، وهم الذين احتاجوا إلى التدوين وإلى التأليف وهم الذين أنشأوا المذاهب.
الخلاف بين التابعين في المسائل العقدية مثلاً، من أمثلته الخلاف في مفهوم الإيمان؛ هل يدخل فيه العمل أم لا؟ هذا خلاف بين التابعين، فحماد بن أبي سليمان شيخ الأئمة من أئمة التابعين شيخ أبي حنيفة يرى أن الإيمان هو عمل القلب وأن الإسلام هو عمل الجوارح، وكذلك عدد من التابعين معه، أتباع التابعين كذلك اختلفوا حتى في المسألة اللفظية المشهورة، هل تكلمنا بالقرآن من صفاتنا، وصفاتنا مخلوقة هل يجوز إطلاق هذا أو لا يجوز، وهذه المسألة التي استمر الخلاف فيها حتى أيام البخاري رحمه الله، وحصل الخلاف فيها بينه وبين شيخه محمد بن يحيى بن خالد الذهلي، وحصل الخلاف فيها بين أبي نعيمٍ وابن منده، فاختفى أبو نعيم مدة عمر ابن منده حتى مات فخرج للناس، هذا خلاف بين السلف، أهل الحديث، في مسائل عقدية، كذلك الخلافات الفقهية بينهم ولم تكن تفسد للود قضية، وكانوا يتحاورون فيها، فمن رجح قوله بالدليل غلب، والشافعي يقول : ما ناظرت أحداً إلا سألتُ الله أن يُظهر الحق على لسانه، قيل: ولم؟ قال: إن ظهر الحق على لساني خشيت الفتنة، وإن ظهر على لسان خصمي عرفت الحق ولم أخش الفتنة».
انتهى كلامه؛ فأقول:
لم يكن هذا من تقرير الدَّدو إلا بعد أن وقع في ربقة الحزبية لفرقة الإخوان، والتحق بركابهم، وحمله هذا الانتماء على تفتيت عقيدة الولاء والبراء وتصحيح عقائد المخالفين، لأن أصل دين فرقة الإخوان؛ قائمٌ على هذا، تحت قاعدة: «نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه» وَمَذْهب السَّلف هو المذهب الحق الذي لا يجوز العدول عنه، ولا فهم الوحيين إلا به، ومن زعم أنه في غنىً عن مذهب السَّلف فهو زنديقٌ بنصِّ كلام أهل العلم كما سيأتي، وهذا هو الاتباع، والتقليد المحمود، لأن التقليدَ تقليدان؛ محمود ومذموم، والمذموم ما كان بالتعصب للرجال والمذاهب، وردّ الدليل بغير حجة ولا برهان، وأما المحمود، فهو اتباع السلف فيما قالوا.
قال حربٌ الكرماني في كتابه في "السنة": «ومن زعم أنه لا يرى التقليد؛ ولا يقلد دينه أحداً، فهو قول فاسقٍ مبتدع، عدوٍّ لله ولرسوله r ولدينه ولكتابه ولسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، إنما يريد بذلك إبطال الأثر، وتعطيل العلم، وإطفاء السنة، والتفرد بالرأي والكلام والبدعة والخلاف... ».
فتأمل قول الإمام حرب الكرماني وقارنه بذم الددو لمن يمجد السلف تمجيداً مطلقاً!
فمذهب السلف: هو كل ما كان محلّ اتِّفاق بين السلف، وليس المراد بقول القائل: مذهب السلف؛ ما كان فيه خلاف بينهم، أو قال به بعضهم من اجتهاده، فإنّ هذا لا يقال فيه: مذهب السلف، وإنما يقال: قال به بعض السلف، أو جمهور السلف.
وأين يذهب الدَّدو عن أصل الإجماع؟ حتى صوّر للناظر أن السَّلف مفترقون غير متفقين في شيء! وهذا من أبطل الباطل، فالسلف رحمهم الله تعالى، اتفقوا على مسائل، وصارت بينهم محلَّ اتفاقٍ وإجماعٍ في الأصول والفروع، والعقائدِ والأحكام، ومن يخالفها يُنكر عليه، ويقال: «خالف مذهب السلف» و«خرج عن سبيل الجماعة».
وكذلك السلف اختلفوا في مسائل، وأهل العلم والعقل على عدم النكير على من خالف في ذلك بشيء مما يسوغ الخلاف فيه، وهي غالباً تكون في فروع المسائل، ودقائق الأحكام، وأما أصول الاعتقاد التي يقرِّرُها أهل السنة في مؤلفاتهم، فهي في جملتها محلّ إجماع بين السلف يضلّل من خالفها، وعلى ذلك ينصون فيما دونوه من كتب الاعتقاد؛ بأن من خالف هذا فهو ضالٌّ مضلٌّ مبتدع، وما ضلّلوا بذلك إلا لمخالفتهم «مذهب العموم» و«إجماع الجماعة» وإلا فمسائل الخلاف المعتبر لا تضليل فيها ولا تبديع.
وقد يُذكر في كتب الاعتقاد "ما يلحق" بمسائل النظر والاستدلال، ولا يضلَّل فيه المخالف، سواء فيالصفات العليِّة كوصف الله ببعض الصفات فيثبتها قومٌ وينفيها آخرون لعدم صحة الدليل أو الدلالة، واختلافهم في الاسم والمسمى والمراد بذلك؛ وكذلك بقية أصول الإيمان، كاختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، واختلافهم في رؤية الكفار لربهم في أرض المحشر، وتنوع عباراتهم في الاستثناء في الإيمان، وغير ذلك، وهذا كلّه خلافٌ ينقل المسألة الاعتقادية إلى حكم مسائل النظر، مع اعتبار أن المختلفين لابد وأن يتفقوا على أصل المسألة:
فهم وإن اختلفوا في وصف الله ببعض الصفات؛ متفقون على أن ما ثبت أنه صفة فيثبت لله تعالى على الوجه اللائق به من غير تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تمثيل، فقد يختلف بعض السلف في كون الآية أو الحديث من نصوص الصفات، ولكنهم لم ولن يختلفوا بأنه متى ثبت بأنها من نصوص الصفات أن تُجرى على أصلهم العقدي المتفق عليه.
وكذلك اختلافهم في الاسم والمسمى، فهم متفقون على أن أسماء الله لله، وأن الله واحدٌ بذاته وصفاته.
وكذلك؛ في مسألة الاستثناء في الإيمان؛ فهم متفقون عند التفصيل على أن من الإيمان ما يستحق الاستثناء فيه وهو الأعمال لزيادتها ونقصانها، ومن الإيمان ما يصح الإقرار به جزماً بدون استثناء كالإقرار بالإيمان بالله وكتبه والملائكة والنبيين والقدر واليوم الآخر، وإنما الخلاف بينهم في مجرد "الإطلاق" بقول القائل: «أنا مؤمن!» فأي إيمان يريد؟ مما تقدم ذكره.
وكذلك الاختلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، هم متفقون على أنها غير مستحيلة عقلاً، وأنها ثابتة بنص الشرع في الجنة، ولكن اختلفوا في الرؤية ليلة المعراج لعدم ثبوت الدليل الشرعي المثبت للرؤية، وهذه مسألة فرعية من مسألة عقدية أصلية.
وعلى ذلك فليقاس، فمتى جاء أن السَّلف أنهم اختلفوا في كتب العقائد، إنما هو اختلافهم في مسألة متفرعة من أصل ثابتٍ بالإجماع، مما يجب على المسلمين اعتقاده، وليس في كتب العقائد مسألة أصلية منفردة عن غيرها من أصول الاعتقاد هي محل خلاف بين العلماء.
إذا تبين ما تقدم:
[1] تبين بطلان استدلال الددو باختلاف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج.
[2] ومثله اختلافهم في إلحاق المعوذتين بالقرآن الكريم، فهم متفقون على أنَّ كلام الله تعالى صفة من صفاته، وأن المعوذتين وحيٌ من الله تعالى، وإنما اختلفوا فيهما هل هما من القرآن الكريم أم رقيةٌ ربانية جاءت بها السنة النبوية، وهي من وحي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4] ثم استقر إجماع الصحابة على أنهما من القرآن بعد جمع المصحف، فصار من يخالف بعد ذلك ضالٌّ مضل.
[3] وأما ما ذكره بأن التابعين اختلفوا في إلحاق العمل بالإيمان محتجاً بقول حماد بن أبي سليمان وأهل الكوفة، فهو مردود عليه، وخلاف حماد ومن قال بقوله مردود أنكره العلماء، وبالغوا في الطعن فيهم، والتحذير من قولهم، وأخرجوهم عنهم باسم : «المرجئة» فليسوا من السلف في باب الإيمان، ولا يعتدُّ بخلافهم، بل هم مخالفون لمن سلفهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم باتفاق يرون بأن العمل من الإيمان.
[4] وأما مسألة اللفظ؛ فأهل السنة لم يختلفوا في ذلك، بل ذموا اللفظية وحذَّروا منهم لما في إطلاقهم من التضليل والإيهام، وعدم التمييز بين الحق والباطل في قولهم، ولم يكن أحدٌ من عامة السلف من كان يقول: «لفظي بالقرآن مخلوق» أو «غير مخلوق» نفياً ولا إثباتاً، بدون تفصيل، ولذلك أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال: «لفظي بالقرآن مخلوق» وعلى من قال: «غير مخلوق» ورأى السكوت أو التفصيل بتمييز المراد باللفظ، لأنه يطلق على حركة اللسان والحلق، وعلى الملفوظ، ومن الملفوظ المقروء ما هو من كلام الله تعالى وصفاته، ومنه ما هو من عمل العبد مخلوق مثله، ومن روي عنه من السلف إطلاق أحد القولين؛ فمحل الإنكار عليه "الإطلاق" لا أصل المراد، فما يريد إلا المعنى الحق لا الباطل، بعكس الجهمية ومن تبعهم فمرادهم المكر والتجهم.
فلا خلاف بين أئمة السلف في اللفظ، ومن خالفهم في ذلك ضالٌ مضلّ، كما هي أقوالهم مشهورة منشورة في حامل لواء هذه المخالفة، وهو الحسين الكرابيسي.
والإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يقل بالّلفظ، ولا ثبت عنه ذلك، وما حصل بينه وبين الذهلي من فتن الأقران، لسوء نقلِ الوشاة، وإلا فكلُّهم على قولٍ واحد، وكتابه "خلق أفعال العباد" يميز الحق من الباطل، ويدفع عنه هذه التهمة، وأبوابه في كتاب التوحيد من الصحيح تثبت قوله بقول أهل السنة والسلف قاطبة.
ومثله الفتنة التي بين أبي نعيم وابن منده: "آفتها الإطلاق، لا أصل أهل السنة المطرد بأن القرآن كلام الله تعالى حقيقة كيفما كان في الصدور أو السطور، وليس عبارة ولا حكاية".
فخلافهم في "الإطلاق" وكلٌّ منهم قال ما يرى أنه الصواب، وفرّ مما يرى أنه محل ضلال، فأخذ كلٌّ منهم القول من جانب، كما تقدم في مسألة الاستثناء في الإيمان، ولهذا أنكر الإمام أحمد على كلا الفريقين، من نفي خلقية اللفظ أو قال بأنه مخلوق، وقد يقع من بعضهم التجاوز في النفي أو الإثبات فيخرج بقوله عن قول أهل السنة والسلف عامة، وانظر "فتاوى شيخ الإسلام" (12/208-209).
فهذه المسائل كلها مسائل نظرية اجتهادية متفرعة عن أصول اعتقادية هي محل اتفاق بين السلف، وخلافهم هذا لا ينفي اتفاقهم في غير ذلك يا ددو؛ فلم يختلف السلف الصالح قاطبة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين:
بأن الله تعالى يتكلم، وأنه على العرش استوى، وأنه يُرى في الجنة، ولم يخالفهم إلا الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وطائفتهم، فهل نعتد بهذا الخلاف؟
ويؤمن السلف اجماعاً بلا خلاف:
بنبوة محمدr والنبيين من قبله، وأنه ميت فارق الدنيا، وهو حيٌّ في قبره.
ويؤمن السلف إجماعاً بلا خلاف:
بالعرش والكرسي والَّلوح المحفوظ والميزان والصراط، ولم ينكر ذلك إلا الزنادقة في عصرهم وبعد عصرهم، فهل يعتد الددو بخلافهم؟
ويؤمن السلف إجماعاً بلا خلاف:
بأنه ما من شيءٍ من خير ولا شرٍّ حارجٌ عن تقدير الله تعالى وإرادته وعلمه.
ويؤمن السلف إجماعاً بلا خلاف:
بأن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد.
ويؤمن السلف إجماعاً بلا خلاف:
بفضيلة الشيخين أبي بكر وعمر، وبقية الخلفاء الأربعة: عثمان وعليّ، والترضي عن سائر أصحاب النبيr، ولم يخالفهم في ذلك إلا الرافضة والناصبة.
ويؤمن السلف إجماعاً بلا خلاف:
بعذاب القبر وسؤاله، والبعث والنشور، والحشر، والحساب، والصراط ، والجنة والنار، ولم يخالف في ذلك إلا أهل الكفر والضلال.
ويؤمن السلف إجماعاً بلا خلاف في قولهم:
بالسَّمع والطاعة لولاة الأمر، البر منهم والفاجر، وترك الخروج.
فهذه وأمثالها من أقوال؛ هي مذهب السلف التي تراد عند قول القائل: «عليك بمذهب السلف» أي فيما اتفقوا عليه، ولذلك منهم من صنف كتب العقائد ونص على اسم المذهب في كتبهم كـكتاب " الإبانة الكبرى عن مذهب السلف في القرآن" لأبي نصر السجزي، وكتاب "شرح مذهب السلف" لإسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني، وكتاب "الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة" للبيهقي، وكتاب "التحف في مذهب السلف" للشوكاني.
ومما أفسد على الددو فهمه:
تصوره لمعنى كلمة "المذهب" وحصره في الرأي والاختيار والاجتهاد، مما يطلقه الفقهاء وأتباع المذاهب قسيماً للقول والرأي والوجه والرواية عن إمام المذهب!
وزعم أنه لا يُطلق على ما يراد من الاعتقاد، وهذا سوء فهم، وإلزامٌ للشرع بفهمه ومصطلح الناس، لا بما يُعلم من أصل لغة العرب، واستعمال أهل العلم، فالمذهب هو: «الذهاب إلى الشيء والمضي إلى طريقه».
بل أصل إطلاق المذهب كان شائعاً في الاعتقاد، ثم انتقل إلى التمذهب الفقهي الفروعي، وهو الذي يعنيه الددو بأنه إنما كان في عصر أتباع التابعين، فهذا هو الفقهي الفروعي لا الأصلي العقدي، فالعقدي مستقر من قبلهم من عصر الصحابة والتابعين، والله تعالى يقول عن الصحابة: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة: 137] وهذا مذهب الصحابة ودينهم، والتابعون على دين الصحابة ومذهبهم، ومن جاء بعدهم ممن يقول بقولهم فهو لهم تابع، ولهذا لم يختلف الأئمة الثلاثة: مالكٌ والشافعي وأحمد في شيء من المذهب، وخالفهم أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى فيما خالفهم فيه وأنكروا عليه، فاختلاف الثلاثة وعامة خلاف أبي حنيفة معهم فرعيّ فقهي،  ويخالفهم أبو حنيفة في مسائل أصلية اعتقادية كانت محل الإنكار عليه من أئمة السلف وأشهرها مسألة الإيمان.
فالذي لم يكن إلا في عصر أتباع التابعين إنما هو "المذهب الفروعي الفقهي" وإلا فهو لفظ يطلق حتى على المسائل "الأصلية الإجماعية" من مسائل الاعتقاد والأحكام.
ولذلك درج كثيرٌ من الأئمة على ذكر لفظ "مذهب السلف" في تقرير أصول الاعتقاد، كقول حربٍ الكرماني في كتابه في "السنة" : «القول في المذهب عندنا» ثم ذكر أصول اعتقاد أهل السنة، ثم قال (ص90): «فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالفٌ مبتدعٌ خارجٌ من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق».
وكقول محمد بن الحسين الآجري في "الشريعة"  (1/ 301): علامة من أراد الله به خيرا: سلوك هذا الطريق , كتاب الله، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء مثل الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقتهم، ومجانبة كل مذهب يذمه هؤلاء العلماء، وسنبين ما يرضونه إن شاء الله تعالى».
وعقد في كتاباً الشريعة كتاباً قال فيه (5/ 2311): «كتاب مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين» فكيف يقول الددو: ليس للصحابة مذهب؟!
كقول أبي سليمان الخطابي في كتاب "الغنية عن الكلام وأهله" قال: «فأما ما سألت عنه من الكلام في الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنن الصحيحة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا الحافظ أبو بكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني وغيرهم» نقل ذلك عنه الذهبي في "العلو للعلي الغفار" (ص: 236).
وقول الإمام أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي، صاحب "الترغيب والترهيب" وقد سئل عن صفات الرب تعالى فقال: «مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه، أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل، قال سفيان بن عيينة: «كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره» أي على ظاهره، لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل» نقله الذهبي في "كتاب العرش" (2/ 459-460).
والخطيب البغدادي يقول في رسالته في "الصفات" : «أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم، فأبطلوا ما أثبته الله تعالى، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه» نقله جماعة منهم الذهبي في "تاريخ الإسلام" (10/ 185).
وقول أبي محمد ابن قدامة في "تحريم النظر في كتب الكلام" (ص: 36) «فإنه لا خلاف في أن مذهب السلف الإقرار والتسليم وترك التعرض للتأويل والتمثيل، ثم إن الأصل عدم تأويلهم فمن ادعى أنهم تأولوها فليأت ببرهان عل قوله».
وقال أيضاً (ص: 36): «ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم في أن مذهب السلف رضي الله عنهم في صفات الله سبحانه وتعالى الإقرار بها والإمرار لها».
وقال القرطبي في كتابه في "أسماء الله الحسنى": «أظهر الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح» نقله عنه مرعي الكرمي في "أقاويل الثقات" (ص: 132).
وقوله: «وإن كنت لا أقول به» لأنه على مذهب الأشاعرة في الصفات، والقصد تنصيصه على مذهب السلف.
ولما أراد أَبو القاسم سعد بن علي الزنجاني أن يجب عن قوله في الصفات، فذكر أن جوابه هو جواب الإمام ابن سريج الشافعي، فكان مما قال الزنجاني: «سَأَلت أيدك الله بَيَان مَا صَحَّ لدي من مَذْهَب السّلف وَصَالح الْخلف فِي الصِّفَات فاستخرت الله تَعَالَى وأجبت بِجَوَاب الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن سريج ..» ثم ذكر معتقده، نقل هذا الذهبي العلو للعلي الغفار (ص: 207).
ومن اللطائف؛ ما نقله أبو طاهر السِّلَفي في "معجم السفر" (ص: 56) قال: سمعت أبا العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنداني الأصبهاني قدم علينا دمشق غازياً قال: «خرجت من ناحيتي وأنا أعتقد مذهب السلف وترك الجدال في الدين والإقرار بما ورد في القرآن والحديث والإصرار على ظواهر من غير تعرض لتأويل فرأيت في سفري قوما يعيبون علي ذلك حتى قلت في نفسي لعلي على الخطأ وهممت بالرجوع عن ذلك فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول لي أتصبر على النار فقلت يا رسول الله وكيف يدخل النار من رآك فتبسم ثم قال عليك بمذهب السلف وما أنت عليه، فانتبهت وشكرت الله تعالى».
وإطلاق «مذهب السلف» في كلام المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن الذهبي رحمهم الله وغيرهم أكثر من أن يحصر.
فليس القول بمذهب السلف، وتعظيمه: سفسطة ولا هؤلاء بسفسطائين؛ وإنما هو اتباع والتزام بما أجمع عليه الصحابة والتابعون وأتباعهم، وأهل السنة قاطبة، وبه المحنة، وعليه المعتقد.
وما عدا المُجمع عليه مساره مسار مسائل الخلاف الفرعي، والتعامل مع المخالف فيه يكون بالتناصح والمباحثة، والعذر فيما اختلف فيه الاختلاف السائغ.
ويجب أن ينتبه إلى أن مذهب السلف قد ينتسب إليه من ليس من أهله، وذلك لشرفه وسموّه، كما يصنع بعض المتأخرين من الجهمية من نسبة عقيدة التفويض في الصفات إلى السلف، وكذلك بعض الخوارج من نسبة الخروج على السلطان الجائر إلى السلف، وما شابه ذلك، وكلّ هذه دعاوى يكشف زيفها من عرف عقائد السلف، وما دوّنه أهل السنة في كتب الاعتقاد، وأدمن النظر في مقالات المتقدمين.
ويراجع للأهمية هذا المقال لأهميته واتصاله بالموضوع:

هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي

عصر الخميس 26 من ذي القعدة سنة 1436هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني