من المختارات لكم (90) : التلاعب بالرؤى

التلاعب بالرؤى
والتحذير من تفسير المرأة لرؤيا
بشأن هدم الكعبة بسقوط برج الساعة عليها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد كثر السؤال من العامة عن مقطع مرئيٍ لامرأة تصدرت لتفسير الأحلام في إحدى القنوات، تفسّر فيه رؤيا لطفلة صغيرة رأت رؤيا في بكاء الكعبة تقول في نص رؤياها فيما حكته هذه المفسرة: (إن رأيت أن الكعبة تأتيني، وتبكي بكاء مثل المطر من جنب واحد، وتنادي وتقول يا أمة محمد، يا أمة الإسلام يا من قلتم لا إله إلا الله، أغيثوني، وبقدر الله كله مكتوب، فجريت عليها هكذا- جرت إلى الكعبة وسألتها، وكنت أنا الوحيدة الموجودة عندها، مالك يا دنيا الآخرة في الأرض!!!! قالت لي: ثلاثة وتسعين مصنوعة، فقلت: مش فاهمة، فرجعت تاني، فقالت: ثلاثة وتسعين موجودة، فسكت فقالت: ثلاثة وتسعين على وشك، فحسيت كأن القيامة ستقوم، وفجأة اهتزت الأرض).
وقالت المفسّرة: الرؤيا "مهمة!" وذكرت أن هناك مؤامرة قد دُبّرت وانتهت وهي موجودة!
ومن باب الاختصار في التعليق على هذا التفسير على فرض صحّة الرؤيا ممن رأتها أنه تفسير بالتحكيم والتهويل، والشغب في الواقع، ولا يوجد في تفسيرها رابطٌ بأي لفظٍ من ألفاظ منطوق الرؤيا، وإنما هو ضربٌ من التخرص والتهويل، والتأويل بخلفيات نفسية في ذهن المفسرة لا علاقة لها بواقع الرؤيا ولا ملفوظ من رآها، فمن قواعد تفسير الرؤى: "أنه مرتبطٌ ارتباط كلياً بملفوظ الرائي" ومن جاء بشيء لا ارتباط له بالرؤيا فهو كذّاب متلاعب بها، قائل على الله تعالى بغير علم، فتفسير الأحلام بلا علم من القول على الله بغير علم، لأن الرؤيا جزء من الوحي والنبوة، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والقول فيها من الفتوى، كما قال تعالى عن عزيز مصر: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي) [يوسف: 43] والله تعالى يقول: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36] ويقول تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33] والتنبؤ بما سيحصل في المستقبل بمقدمات لا يقرّها الشرع، أو بما يخفى دليله، ضربٌ من العرافة المنكرة، والتكهن المحرم شرعاً، فالعراف هو الذي يدعي علم الغيب بأمور يزعم أنه أخذ دليله منها، فبالنجم يكون منجماً، وبالخط والرمل يكون خطاطاً رمالاً، وبالكهانة يكون كاهناً، وكذلك اليوم في كثير من تفسير الأحلام!
ومن رأى الكثير من المتصدرين وتفسيرهم الأحلام يجزم أنهم لا يخرجون من رجلين اثنين:
[1] إما كذّاب أفّاك متكسب بتفسير الأحلام، ومتلاعب بميراث النبوة، ليصرف وجوه الناس إليه، وليتكسب الأموال والشهرة، فيتكلم في كثير من الأمور الغيبية بما يضحك منه الصبيان، وقد رأى الناس ذلك في كثير من تفسيراتهم في مواطن السفه والجهل كنتائج مباريات كرة القدم، وما يحصل فيها من كذّب وترقيع للقول، ومخالفة للواقع، بل والأدهى والأمر أن منهم من يقسم على صحة تفسيره ويوسف عليه السلام الذي كانت رؤياه وحياً ونبوةً محضة يقول الله تعالى عنه: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) [يوسف: 42] أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) [يوسف: 42] قال:  (إنما عبارة الرؤيا بالظن فيحق الله ما يشاء ويبطل ما يشاء).
وهؤلاء المتهورون المتجاسرون يطلقون الأيمان والأقسام بأن تأويلهم للرؤيا سوف يقع!
فأي جنون هذا الجنون؟ وأي مجون هذا المجون؟
لما رأى الإمام مالك أقواماً يتجاسرون على تفسير الأحلام في زمانه قال: (أيلعب بالنبوة؟).
فكيف لو رأى هؤلاء وما يصنعون؟
 [2] وإما متكهنٌ يتلاعب بالحروف كتلاعب السحرة بحروف الجمل (الأباجاد) ويزيد وينقص، ويقدم ويؤخر، ويأتي بمستوحش المعاني، وبعيد الدلالات لكي يُنتج تفسيراً دجلياً لا علاقة له بالرؤيا أصلا!!
وهذا من جنس تأويل هذه المفسرة، فهي تعترف بأن الرؤيا "طلاسم!" و"مش مفهومة!" ثم تأتي وتفسرها، وتقول: "هي قابت نفسها إن شاء الله" ثم تفسرها بما لا علاقة له بالرؤيا أصلا! ومن ذلك: أنها تتضمن مخططاً ماسونياً يهوديا دخل السعودية! وأن التخطيط تمَّ ونشأ وبُني!!
ولا تريد بذلك إلا مشروع الملك عبدالعزيز!
ومن عرف المشروع وإنشاءه يعلم بأنه طاعة وقربة من الملك عبدالله بن عبدالعزيز لا علاقة له بالماسونية ولا باليهود، وهو وقفٌ شرعيٌّ، بغض النظر عن حجم البناء وعلّوه، وارتفاعه على البيت الحرام فهذه مسألة بحثها فقهي شرعي- ولكنّ المشروع لا علاقة له باليهود ولا بالماسونية كما تزعمه هذه المفسرة، بل هو وقفٌ شرعي صحيح.
فمن أين جاءت المفسرة بالماسونية واليهود في الرؤيا؟
ومن أين لها بأن الفئة الماسونية هي الفئة الثالثة وليست الأولى؟
وأنهم أحبُّوا أن يجعلوا قبلة المسلمين إلى غير الكعبة المشرفة! وإنما إلى القدس، وأن هذا لا يكفي لأن القدس كان أصلاً قبلة للمسلمين.
وأنهم قالوا: أن هذا يكون بعدما نبني هيكل سليمان!
وأن هذا كله بعد سقوط سوريا.
وأنهم رأوا أن يخلقوا فتنة بين المشايخ! وأن هناك من يفتي ويقول بأن قبلتكم هي القدس!
كلّ هذا الكلام من أين جاءت به في الرؤيا؟ وما علاقته بها؟ كلُّه من خلفيات المعبرة وتخرصاتها، لو كان الكلام حقاً كيف وهو باطلٌ وكهانة! ورجمٌ بالغيب، وبأي وحي ورسالة علمت بأن سوريا سوف تسقط؟ وأن هيكل سليمان سيُبنى بعد ذلك، وأن أهل الإسلام سيختلفون في القبلة؟
كلّ ذلك يكشف تهور هذه المرأة وجرأتها على تفسير الأحلام.
ثم ذَكَرت أموراً في المسافات بين الكعبة والبرج، وطول البرج، وكذلك كمية الحديد المستعمل، والجهة التي لا يوجد فيها حديد، وأن البرج فيه ميل بمقدار سبعة عشر درجة! وأن الجهة الخلفية من البرج من الفولاذ! ومدعم بالحديد المنعزل!! هكذا قالت- عن التكوين المجوّف داخل البرج! وهكذا قالت- وأن الجهة القبلية لا حديد فيها مطلقاً!
وكل هذا رجمٌ بالغيب في واقع الحال، ومستقبل الأيام، ولا دليل عليه لا في الرؤيا، ولا في حقيقة البناء!
وثلاثة وتسعين طناً من الحديد قدرٌ قليل جداً لا يبنى به قواعد البناء فضلاً عن ما شيّد فوقه إلى أعلى البرج!
فكل هذا وغيره في كلامها لا علاقة له بمنطوق الرؤيا، وإن كانت الرؤيا حقاً، فتأويلها بعيدٌ عن ذلك كلّه.
وهدم الكعبة لا يعني زوال الدنيا، وانتهاء العالم، وقيام الساعة! سواء كان بجناية أو بغير ذلك، فقد هُدمت الكعبة مرات ومرات عبر التاريخ، من جراء حروب أو سيولٍ أو إعادة بناء، فلو حصل من قدر الله تعالى ما تهدم بسببه الكعبة زادها الله عزة ومنعة ورفعة- فإن هذا لا يعني قيام الساعة حتى يأتي ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي السويقتين الحبشي، الذي يهدم الكعبة ثم لا يُحج البيت بعده.
وتفسير الرؤيا علمٌ وهبة من الله تعالى، وما من كتاب من كتب الحديث إلا وفيه باب الرؤيا، فهو يؤخذ بالعلم والتلقي، وفيه توفيق وإلهام من الله تعالى، والمرأة في كلامه تزعم أنها منقذة للناس ولبيت الله الحرام بما "منَّ الله عليها به" من تفسير الرؤى! وأن ما عندها من تفسير الأحلام من "العلم اللدني!" وهذا كلامٌ خالٍ من العلم والورع.
وخلاصة القول:
لا أنصح إخواني بالنظر في هذا التأويل، ولا الأخذ عن هذه المفسرة ولا عن غيرها من المتربعين على أرائك القنوات الفضائية شهرةً وتكسباً، ممن لم يُعرفوا بالعلم والعقل والديانة، وتعرض الرؤيا على صاحب الدين والعلم والعقل والديانة والورع، ممن لا يريد مالاً ولا نوالاً، ولا شهرةً وصرف الوجوه إليه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب
بدر بن علي بن طامي العتيبي

الأربعاء 17 ذو الحجة 1436هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من المختارات لكم (130): نفي نسبة كتاب الحرف والصوت للنووي

من المختارات لكم (147): الرد على دعدوش وكلامه في صراع نجد والحجاز ومن يحق له امتلاك الحرمين

من المختارات لكم (45): وقفات مع عقيدة حاتم العوني